موعظة لمن وقع في العُجْبِ والغُرُور، ليتدارك قبل السقوط والخُرُور

بسم الله الرحمن الرحيم

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما بعد:

فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((ثلاثٌ مهلكات: شحٌ مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه)).
وفي رواية: ((وإعجاب المرء برأيه)).

جاء هذا عن جمع من الصحابة، وحسنه بمجموع طرقه المنذري في (الترغيب والترهيب ج1 ص174)، والألباني في (الصحيحة 1802).


ولما سأل أبو بَكْرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه، رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن كلماتٍ يقولهن إذا أصبح وإذا أمسى، أمره عليه الصلاة والسلام بأن يقول: ((اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ)). ثم قال: ((قُلْهَا إِذَا أَصْبَحْتَ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ، وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ)).

رواه أحمد والدارمي وأبو داود والترمذي وغيرهم بإسناد صحيح.


فكان مما أمره به من الدعاء: الاستعاذة من شر النفس، ومن شر الشيطان.

وإن طالب العلم وخاصة في بداية الطَلَب والعُمْر قد تُسَوِّلُ له نفسه أو يوسوس إليه شيطانه أنه فاق غيره علماً، وأنه بلغ من الكمال مبلغاً، وأنه في الدرجات العلى، وأنه خير أهل زمانه طُرَّاً، وأنه، وأنه... حتى يقع في المَحْذُور، من الكِبْرِ والعُجْبِ والغُرُور، فيكون أمره في دبُور، إلا إذا تداركه الله سبحانه برحمته فانتشله قبل الخُرُور، وقبل الغَرْغَرَة، ودخول القبور.

خاصة إذا حصل على شهادة من أحد المؤسسات العلمية، كالجامعات والمعاهد والدُّورِ العالمية، فيكون الخطر عليه أعظم، وإن اغتر بهذه الشهادة صار خطره على نفسه وعلى الناس أكبر، وذلك لأن الجاهل الجهل المركب لا يدري أنه جاهلٌ فيرجع ويثوب ويتعلم، فالجهل المركب: هو الجهل الذي يكون فيه صاحبه على غير دراية بجهله، لذلك فهو أخطر حالاً وتأثيراً من غيره من الجهال الذين جهلهم خفيف، والجهل الخفيف: هو الجهل الذي يكون فيه صاحبه على دراية بأنه جاهل، فهذا يكون أقرب للخير من الأول لأنه يدري أنه جاهل.




ورحم الله الشاعر الذي قال -في وصف ذلك بلسان صاحب هذا الحال-:

دخلتُ الجَامِعةَ جاهلاً متواضعا ... فَتَخَرَّجْتُ منها جَاهِلاً مَغْرورا


أخي لا يكن لسان حالك كما قال هذا الشاعر.



ثم تيقن -حفظني الله وإياك- أن علم الشريعة لا يزيد صاحبه من الله إلا قرباً، ولا يزيده إلا تواضعاً، فانظر لنفسك فإن كنت ضد ذلك، فتفطن لحالك، وبادر وتدارك، لكيلا تكن من الفاسقين الهَوَالِك.

فإن الله عز وجل قال: {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون} [الحشر: ١٩].
وقال عن المنافقين: {نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون} [التوبة: ٦٧].


ولا تظنَّنَّ يوماً من الأيام أن التوفيق حليفك، وأنت هذه حالك وهذا مُقامُك.





قال الإمام أبو محمد ابن حزم:



((وَاعْلَم أَن كثيراً من أهل الْحِرْص على الْعلم يَجدونَ الْقِرَاءَة والإكباب على الدُّرُوس والطلب ثمَّ لَا يُرْزقُونَ مِنْهُ حظاً، فَليعلم ذُو الْعلم أَنه لَو كَانَ بالإكباب وَحده لَكَانَ غَيره فَوْقه، فَصَحَّ أَنه موهبة من الله تَعَالَى، فَأَيُّ مَكَانٍ للعُجْبِ هَا هُنَا؟! مَا هَذَا إِلَّا مَوضِع تواضع، وشكر لله تَعَالَى واستزادة من نعمه واستعاذة من سلبها، ثمَّ تفكر أَيْضاً فِي أَن مَا خَفِي عَلَيْك وجهلته من أَنْوَاع الْعلم ثمَّ من أَصْنَاف علمك الَّذِي تخْتَص بِهِ فَالَّذِي أعجبت بنفاذك فِيهِ أَكثر مِمَّا تعلم من ذَلِك فَاجْعَلْ مَكَان الْعُجْبِ استنقاصاً لنَفسك واستقصاراً لَهَا فَهُوَ أولى، وتفكر فِيمَن كَانَ أعلم مِنْك تجدهم كثيراً، فَلْتُهن نَفسك عنْدك حِينَئِذٍ، وتفكر فِي إخلالك بعلمك وَأَنَّك لَا تعْمل بِمَا علمت مِنْهُ فلعلمك عَلَيْك حجَّة حِينَئِذٍ، وَلَقَد كَانَ أسلم لَك لَو لم تكن عَالماً، وَاعْلَم أَن الْجَاهِل حِينَئِذٍ أَعقل مِنْك وَأحسن حَالاً وأعذر، فليسقط عُجْبك بِالْكُلِّيَّةِ!)).


(الأخلاق والسير في مداواة النفوس ص69) لابن حزم.



ورحم الله القائل:

إنَّ الكَمَالَ الذِيْ سَادَ الرِّجَالُ بِهِ ... هُوَ الوَقارُ وَقَرْنُ العِلْمِ بِالعَمَلِ
فَقُلْ لِمَنْ يَزْدَهِيْ عُجْبَاً بِمَنْطِقِهِ ... وَقَلْبُهُ في قُيُوْدِ الحِرْصِ والأَمَلِ

مَهْلَاً فَمَا الله سَاهٍ عَنْ تَلَاعُبِكُمْ ... لَكِنَّ مَوْعِدكُمْ في مُنْتهى الأَجَـلِ







هذا والله أسألُ لي ولجميع المسلمين التوفيق والسداد، وأن يقينا شر أنفسنا، وشر الشيطان الغَرُور، وأن لا يجعلنا من المعجبين بأنفسهم أصحاب الغُرُور، آمين، وصلى الله وسلم وبارك على رسولنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الحشر والنشور.




وكتب
عبد الله بن سعيد الهليل الشمري
21 شعبان 1440

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بيان أن الصحابة كانوا يقولون في تشهد الصلاة (السلام عليك أيها النبي) بصيغة المُخَاطَبة، في حياة النبي ﷺ، وبيان أنهم كانوا يقولون (السلام على النبي) بصيغة: الْغَيْبَةِ، بعد وفاة النبي ﷺ

حَدِيْثُ أَنَسٍ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ الثُّفْلُ.

خطبة الجمعة (فضل العلم وأهله وفضل النفقة على أهله والحث على طلبه)