حديث ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ جَارِ السُّوءِ فِي دَارِ الْمُقَامَةِ، فَإِنَّ جَارَ الْبَادِيَةِ يَتَحَوَّلُ))

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:


فقد صح الحديث في الاستعاذة من الجار في دار المقامة، ويستفاد من مجموع أكثر الروايات أن دار المُقامة المقصود بها: الإقامة في بلد من البلدان، في الدنيا، لكني وقفت على اختلاف في إحدى رواياته، يُفهم منها أن المقصود بدار المقامة هو (الآخرة)! أو (أول منازل الآخرة)، وهو: البرزخ (القبر)، فقد روى البخاري في (الأدب المفرد) من طريق سليمان بن حيان أبي خالد الأحمر، عن مُحَمَّد بْن عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال: كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقام، فإن جار الدنيا يتحول).


فَعُلِمَ من لفظة (الدنيا) أن المقصود بدار المقام أو المقامة: الآخرة، أو أول منازل الآخرة، وهو: البرزخ (القبر)، كما أشار إلى هذا المعنى الأمير الصنعاني في (التنوير) ج3 ص96.


أما باقي روايات الحديث ففيها بدل اللفظة المذكورة: (البادية)، فعلم أن المقصود بدار المقامة ما تم ذكره أعلاه، وهو: الإقامة في الدنيا.

ولفظة (البادية) أقوى من حيث الرواية، لأنها جاءت من طرق، وهي:

الأول: من طريق سليمان بن حيان أبي خالد الأحمر، عن مُحَمَّد بْن عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. كما في مصنف ابن أبي شيبة (25930)، ومسند أبي يعلى الموصلي (6536)، وصحيح ابن حبان (1033)، ومستدرك الحاكم (1957)، ولفظ ابن حبان: (البادي) كذا.

الطريق الثاني: طريق يحيى بن سعيد، عن مُحَمَّد بْن عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. كما في سنن النسائي (5517).

الثالث: وهو ما رواه البزار في مسنده (8496) والنسائي في (الكبرى، 7886)، من طريق صفوان بن عيسى، عن مُحَمَّد بْن عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، مرفوعاً بلفظ: البادي ينتقل، ولفظ أبي يعلى الموصلي: تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ جَارِ السُّوءِ فِي دَارِ الْمُقَامِ، فَإِنَّ الْجَارَ الْبَادِيَ مُحَوَّلٌ عَنْكَ.

هذا وقد جاء الحديث من طريق رابع، وبلفظ مقارب المعنى
فقد جاء من طريق عَبْد الرَّحْمَنِ بْن إِسْحَاقَ وهو القرشي مولاهم، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، مرفوعاً: (تعوذوا بِاللهِ مِنْ شَرِّ جَارِ الْمُقَامِ، فَإِنَّ جَارَ الْمُسَافِرِ إِذَا شَاءَ أَنْ يُزَايِلَ زَايلَ). رواه أحمد في مسنده (8534)، والحاكم في مستدركه (1958) واللفظ لأحمد.



هذا وقد أبان الشيخ الألباني في كتابه (السلسلة الصحيحة 3943) أن لفظة (الدنيا) شاذة! فقال: 
((وقد خالف أبا خالد في متن الحديث: يحيى بنُ سعيد؛ فقال: حدثنا محمد ابن عجلان به؛ إلا أنه قال: "تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ جَارِ السُّوءِ فِي دَارِ الْمُقَامِ، فَإِنَّ جَارَ الْبَادِيَةِ يَتَحَوَّلُ عَنْكَ". أخرجه النسائي (2/319)، وهذا أصح؛ لأن ابن عجلان قد تابعه عليه عبد الرحمن بن إسحاق القرشي، وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقد سبق تخريجه برقم (1443)، وذكرت له هناك شاهداً من حديث عقبة بن عامر، فلا داعي للإعادة.
والمقصود: أن هذا الشاهد والمتابعة المذكور تؤكد شذوذ رواية سليمان بن حيان بلفظ: "الدنيا"، بل هو باطل؛ كما يدل عليه سياق الأحاديث كلها، فضلاً عن ألفاظها. وبهذه المناسبة؛ لا بد لي من بيان ما يأتي- دفاعاً عن الحديث النبوي، ورداً على من يتبع هواه فيضعف ما صح منه، ويصحح ما ضعف بل ما هو باطل-، أعني به هنا: الشيخ أحمد الغماري المغربي؛ فإنه تجاهل الشذوذ المشار إليه، بل إنه قلب الأمر فادعى صحته وضعف ما خالفه، وأنه من تصرف الرواة! فقد ذكر في كتابه "المداوي " (1/258) الحديث المعروف بوضعه وبطلانه: " ادفنوا موتاكم وسط قوم صالحين؛ فإن الميت يتأذى بجار السوء، كما يتأذى الحي بجار السوء"! فحلا له تصحيحه ولو بقلب الحقائق العلمية! فقد ساق طرقه، وتكلم على بعضها نقلاً عن ابن الجوزي وابن حبان، وأنه باطل موضوع ؛ لأن فيه (سليمان بن عيسى السِّجزي) الكذاب، ولكنه سكت عن بعضها مما تعقب به السيوطي ابن الجوزي، وتساهله في ذلك معروف؛ ومنها حديث عليّ الطويل ، وفيه:
قيل: يا رسول الله! وهل ينفع الجار الصالح في الآخرة؛ قال: "هل ينفع في الدنيا؛ "، قالوا: نعم. قال: "كذلك ينفع في الآخرة"!
قلت: وهذا أيضاً فيه الكذاب المذكور، والغماري يعلم ذلك من كتابي
"الأحاديث الموضوعة " (613)، وهو كثير الاستفادة منه؛ ولكن على الصمت! كما يتبين ذلك لمن يقابل تخريجاتي فيه بما يخرجه هو في "المداوي "، فكتم علة هذا الحديث؛ تكثراً وتضليلاً للقراء، وإيهاماً لهم بأنه شاهد معتبر!
ولو فرضنا أنه لم يقف على هذه العلة؛ لم يجز له جعله شاهداً مع جهله حال أحد من رواته؛ كما لا يخفى على أهل العلم.
وإن من دعاويه الباطلة، وتضليله لتلامذته السٌّذَّجِ؛ قوله عقب تلك الأحاديث الباطلة:
"قلت: غفل الحافظ السيوطي رحمه الله عن شاهد صحيح وجدته لهذا الحديث في "الأدب المفرد" للبخاري... "! فساقه بإسناده، مع رواية الحاكم المخالفة لمتنه؛ وشاهدها المؤيد لها، ورد ذلك كله بشطبة قلم فقال:
"وهو عندي من تصرف الرواة، والصحيح ما رواه البخاري (!)؛ فإن (دار المقامة) في لسان الشرع هي الآخرة لا الدنيا. وأيضاً لا خصوصية للبادية على الحاضرة في هذا، فالحديث كما عند البخاري (!) يشير إلى سؤال مجاورة الصالحين في الدفن، فيكون شاهداً صحيحاً لحديث الكتاب. والله أعلم "!!
فأقول- وبالله أستعين-:
ما أظن- بعد كل ما تقدم- أن عامة القراء- فضلاً عن خاصتهم- بحاجة إلى مزيد من البيان لبطلان هذا الكلام الذي ختم به الرجل تصحيحه للحديث الباطل بالحديث الشاذ، ومع ذلك فإني أرى أن من الخير رده ببيان ما فيه من الزور والمغالطة، والتقول على الشارع الحكيم، فأقول:
أولاً : قوله: " فإن (دار المقام) في لسان الشارع هي الآخرة لا الدنيا"!
قلت: وهذا كذب وزور، وتقوُّل على الشارع الحكيم بتحميل كلامه ما لا يتحمل؛ فإنه يشير بذلك إلى قوله تعالى في أهل الجنة:
(جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير. وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحَزَنَ إن ربنا لغفور شكور. الذي أحلنا دار المُقَامة من فضله لا يمسُّنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لُغُوب ).
فأنت ترى أن (دار المقامة) في الآية أريد بها الجنة ؛ لأن من دخلها أقام فيها
ولم يخرج منها ألبتة، بخلاف (النار) فليست كذلك " فإنه يخرج منها الموحدون كما هو معلوم، فوسع ذاك المأفون معنى هذه الكلمة، فقال: هي الآخرة، فدخل فيها النار أيضاً، وهذا باطل بداهة! فعل ذلك ليدخل فيها الحياة البرزخية؛ تمهيداً للاستشهاد بالحديث- مع شذوذه- على صحة الحديث الباطل! وقد أشار إلى هذا المعنى الذي ذكرته الراغب الأصبهاني في كتابه الفذ "المفردات في غريب القرآن " فقال (418/2):
"و (المقامة): الإقامة، قال تعالى: (الذي أحلنا دار المقامة من فضله ) نحو (دار الخلد)، و (جنات عدن) ". وقال قتادة في تفسير الآية:
"أقاموا فلا يتحولون ولا يُحَوَّلون ". فالكلمة معناها لغوي محض في القرآن والحديث، ليس لها معنى خاص في الشرع كما زعم المأفون، فهي تقابل معنى التحول الذي صرح به الحديث في قوله: "جار البادية يتحول ". ولهذا قال ابن الأثير في "غريب الحديث ":
"هو الذي يكون في البادية ومسكنه المضارب والخيام، وهو غير مقيم في موضعه، بخلاف جار المقام في المدن ".
ثانياً: قوله: "وأيضاً لا خصوصية للبادية على الحاضرة في هذا"! قلت: هذه سفسطة ومكابرة ذات قرون؛ من ناحيتين:
الأولى: ضربه للأحاديث الصحيحة- بالحديث الشاذ- المصرحة بالفرق الذي نفاه.
والأخرى: جحده للمعروف عن أهل البادية أنهم لا يستقرون ولا يقيمون في مكان واحد، بل يتنقلون من مكان إلى آخر للماء والمرعى لمواشيهم، حتى إن بعض العلماء لم يوجبوا عليهم الجمعة؛ لأنهم غير مقيمين.
ومما سبق؛ يتبين لكل ذي بصيرة سقوط ما نفاه من الحقائق العلمية في ختام كلامه، وهو قوله: "فالحديث كما عند البخاري يشير إلى سؤال مجاورة الصالحين في الدفن... "!!
وخلاصة ذلك؛ أن حديث البخاري في "الأدب المفرد" شاذ لا يستحق التحسين فضلاً عن التصحيح؛ وأن الصحيح إنما هو باللفظ المخالف له: "البادية")).





تنبيه: الحديث صحيح، ولا يقال: إسناده ضعيف لأن محمد بن عجلان اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة؛ لأنه قد تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ وهو القرشي مولاهم، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عند أحمد والحاكم. كما تقدم، وقد نبه على ذلك أيضاً شيخنا الشيخ محمد بن علي آدم الإتيوبي في (ذخيرة العقبى) ج40 ص59.




وكتب:
عبد الله بن سعيد الهليّل الشمري
4 شوال 1440

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حَدِيْثُ أَنَسٍ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ الثُّفْلُ.

خطبة الجمعة (فضل العلم وأهله وفضل النفقة على أهله والحث على طلبه)

بيان حال المدعو: حسن الحسيني