خطبة الجمعة سُوْرَة ق وتفسيرها [1]
خطبة الجمعة (سُوْرَة ق وتفسيرها (1))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ
وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا،
وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ
يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ
لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: ١٠٢]
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ
مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ
بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: ١]
{يَاأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ
أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: ٧٠ – ٧١] أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ
خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللُه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرَّ الْأُمُوْرِ مُحْدَثَاتُهَا وَكَلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ
وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِيْ النَّارِ، أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَقْرَأَ
الْخَطِيْبُ فِيْ خُطْبَتِهِ سُوْرَةَ (ق)، كَمَا ثَبَتَ عَنْ نَبِيِّنَا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارَاً، رَوَى مُسْلِمٌ فِيْ
صَحِيْحِهِ عَنْ أُمِّ هِشَامٍ بِنْتِ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ رَضِيَ اللهُ
عَنْهَا قَالَتْ: (مَا أَخَذْتُ { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } إِلَّا عَنْ
لِسَانِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. يَقْرَؤُهَا كُلَّ يَوْمِ
جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ إِذَا خَطَبَ النَّاسَ). وَفِي لَفْظٍ
آخَرَ: (مَا حَفِظْتُ { ق } إِلَّا مِنْ فِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ بِهَا كُلَّ جُمُعَةٍ).
وَهَذِهِ السُّورَةُ
مَكِّيَّةٌ، وَهِيَ أَوَّلُ الْحِزْبِ الْمُفَصَّلِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقَدْ
كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَذِهِ
السُّورَةِ فِي الْمَجَامِعِ الْكِبَارِ، كَالْعِيدِ وَالْجُمَعِ، لِاشْتِمَالِهَا
عَلَى ابْتِدَاءِ الْخَلْقِ وَالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَالْمَعَادِ وَالْقِيَامِ،
وَالْحِسَابِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ،
وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ.
قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﷽
{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ
فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا
تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ
وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ
فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)} {ق}: حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ
الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، كَقَوْلِهِ: (ص، ن، الم، حم، طس)
وَنَحْوِ ذَلِكَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. وَقَوْلُهُ: {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}
أَيِ: الْكَرِيمُ الْعَظِيمُ الذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ
وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ.
وَجَوَابُ الْقَسَمِ هُوَ مَضْمُونُ
الْكَلَامِ بَعْدَ الْقَسَمِ، وَهُوَ إِثْبَاتُ النُّبُوَّةِ، وَإِثْبَاتُ
الْمَعَادِ، وَتَقْرِيرُهُ وَتَحْقِيقُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْقَسَمُ مُتَلَقًّى
لَفْظًا، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أَقْسَامِ الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ:
{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ}
[ص: 1، 2] ، وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا
أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ}
أَيْ: تَعَجَّبُوا مِنْ إِرْسَالِ رَسُولٍ إِلَيْهِمْ مِنَ الْبَشَرِ كَقَوْلِهِ
تَعَالَى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ
أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} [يُونُسَ: 2] أَيْ: وَلَيْسَ هَذَا بِعَجِيبٍ؛ فَإِنَّ
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ. ثُمَّ قَالَ
مُخْبِرًا عَنْهُمْ فِي عَجَبِهِمْ أَيْضًا مِنَ الْمَعَادِ وَاسْتِبْعَادِهِمْ
لِوُقُوعِهِ: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} أَيْ:
يَقُولُونَ: أَإِذَا مِتْنَا وَبَلِينَا، وَتَقَطَّعَتِ الْأَوْصَالُ مِنَّا،
وَصِرْنَا تُرَابًا، كَيْفَ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى هَذِهِ
الْبِنْيَةِ وَالتَّرْكِيبِ؟ {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} أَيْ: بَعِيدُ الْوُقُوعِ،
وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ اسْتِحَالَتَهُ وَعَدَمَ إِمْكَانِهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَادًّا عَلَيْهِمْ:
{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ} أَيْ: مَا تَأْكُلُ مِنْ
أَجْسَادِهِمْ فِي الْبِلَى، نَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَا يَخْفَى عَلَيْنَا أَيْنَ تَفَرَّقَتِ
الْأَبْدَانُ؟ وَأَيْنَ ذَهَبَتْ؟ وَإِلَى أَيْنَ صَارَتْ؟ {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ
حَفِيظٌ} أَيْ: حَافِظٌ لِذَلِكَ، فَالْعِلْمُ شَامِلٌ، وَالْكِتَابُ أَيْضًا
فِيهِ كُلُّ الْأَشْيَاءِ مَضْبُوطَةٌ. قَالَ العوْفِي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي
قَوْلِهِ: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ} أَيْ: مَا تَأْكُلُ
مِنْ لُحُومِهِمْ وَأَبْشَارِهِمْ، وَعِظَامِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ. وَكَذَا قَالَ
مُجَاهِدٌ، وقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُهُمْ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى
سَبَبَ كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَاسْتِبْعَادِهِمْ مَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ
فَقَالَ: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ}
أَيْ: وَهَذَا حَالُ كُلِّ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْحَقِّ، مَهْمَا قَالَ بَعْدَ
ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَالْمَرِيجُ: الْمُخْتَلِفُ الْمُضْطَرِبُ الْمُلْتَبِسُ
الْمُنْكَرُ خِلَالَهُ، كَقَوْلِهِ: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ
عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذَّارِيَاتِ: 8، 9] .
{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ
فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)
وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ
كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)
وَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ
الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا
لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) }
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا لِلْعِبَادِ
عَلَى قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي أَظْهَرَ بِهَا مَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا
تَعَجَّبُوا مُسْتَبْعِدِينَ لِوُقُوعِهِ: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ
فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} ؟ أَيْ: بِالْمَصَابِيحِ، {وَمَا
لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} . قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي مِنْ شُقُوقٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ:
فُتُوقٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مِنْ صُدُوعٍ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، كَقَوْلِهِ
تَعَالَى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ
الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ. ثُمَّ
ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ
حَسِيرٌ} [الْمُلْكِ: 3، 4] أَيْ: كَلِيلٌ، أَيْ: عَنْ أَنْ يَرَى عَيْبًا أَوْ
نَقْصًا.
وَقَوْلُهُ: {وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا} أَيْ:
وَسَّعْنَاهَا وَفَرَشْنَاهَا، {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} وَهِيَ:
الْجِبَالُ؛ لِئَلَّا تَمِيدَ بِأَهْلِهَا وَتَضْطَرِبَ؛ فَإِنَّهَا مُقَرَّةٌ
عَلَى تَيَّارِ الْمَاءِ الْمُحِيطِ بِهَا مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهَا،
{وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أَيْ: مِنْ جَمِيعِ الزُّرُوعِ
وَالثِّمَارِ وَالنَّبَاتِ وَالْأَنْوَاعِ، {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا
زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذَّارِيَاتِ: 49] ، وَقَوْلُهُ:
{بَهِيجٍ} أَيْ: حَسَنٍ نَضِرٍ.
{تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ
مُنِيبٍ} أَيْ: ومشاهدة خلق السموات وَالْأَرْضِ وَمَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهِمَا
مِنَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ تَبْصِرَةٌ وَدَلَالَةٌ وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ
مُنِيبٍ، أَيْ: خَاضِعٍ خَائِفٍ وَجِلٍ رَجَّاع إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَوْلُهُ
تَعَالَى: {وَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} أَيْ: نَافِعًا،
{فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ} أَيْ: حَدَائِقَ مِنْ بَسَاتِينَ وَنَحْوِهَا، {وَحَبَّ
الْحَصِيدِ} وَهُوَ: الزَّرْعُ الَّذِي يُرَادُ لِحَبِّهِ وَادِّخَارِهِ.
{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} أَيْ: طِوَالًا شَاهِقَاتٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ،
وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ،
وَغَيْرُهُمْ: الْبَاسِقَاتُ الطِّوَالُ. {لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} أَيْ: مَنْضُودٌ.
{رِزْقًا لِلْعِبَادِ} أَيْ: لِلْخَلْقِ، {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا}
وَهِيَ: الْأَرْضُ الَّتِي كَانَتْ هَامِدَةً، فَلَمَّا نَزَلَ عليها الماء اهتزت
وربت وأنبتت من كل زَوْجٍ بَهِيجٍ، مِنْ أَزَاهِيرَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا
يَحَارُ الطَّرْفُ فِي حُسْنِهَا، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا كَانَتْ لَا نَبَاتَ بِهَا،
فَأَصْبَحَتْ تَهْتَزُّ خَضْرَاءَ، فَهَذَا مِثَالٌ لِلْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ
وَالْهَلَاكِ، كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى. وَهَذَا الْمُشَاهَدُ مِنْ
عَظِيمِ قُدْرَتِهِ بِالْحِسِّ أَعْظَمُ مِمَّا أَنْكَرَهُ الْجَاحِدُونَ
لِلْبَعْثِ كقوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ
النَّاسِ} [غَافِرٍ: 57] ، وَقَوْلِهِ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي
خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ
يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الْأَحْقَافِ:
33] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً
فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي
أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39]
. هّذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ
الْجَلِيْلَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ إِنَّهُ هُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيْمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ.
الخطبة الثانية:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ
وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا،
وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ
يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ
لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللهِ
وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللُه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرَّ الْأُمُوْرِ
مُحْدَثَاتُهَا وَكَلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلَّ ضَلَالَةٍ
فِيْ النَّارِ، أَمَّا بَعْدُ:
فَقَدْ قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {كَذَّبَتْ
قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ
وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ
كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأوَّلِ بَلْ
هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)} يَقُولُ تَعَالَى مُتَهَدِّدًا
لِكَفَّارِ قُرَيْشٍ بِمَا أَحَلَّهُ بِأَشْبَاهِهِمْ وَنُظَرَائِهِمْ
وَأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ قَبْلَهُمْ، مِنَ النَّقَمَاتِ وَالْعَذَابِ
الْأَلِيمِ فِي الدُّنْيَا، كَقَوْمِ نُوحٍ وَمَا عَذَّبَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ
الْغَرَقِ الْعَامِّ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَأَصْحَابِ الرَّسِّ وَثَمُودُ.
وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ، وَهُمْ أُمَّتُهُ الَّذِينَ بُعِثَ
إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ سَدُومَ وَمُعَامَلَتُهَا مِنَ الْغَوْرِ، وَكَيْفَ خَسَفَ
اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ، وَأَحَالَ أَرْضَهُمْ بُحَيْرَةً مُنْتِنَةً خَبِيثَةً؛
بِكُفْرِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمُ الْحَقَّ.
{وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ} وَهُمْ قَوْمُ
شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، {وَقَوْمُ تُبَّعٍ} وَهُمْ سَبَأٌ كُلَّمَا مَلَكَ
فِيهِمْ رَجُلٌ سَمَّوْهُ تُبَّعًا، كَمَا يُقَالُ: كِسْرَى لِمَنْ مَلَكَ
الْفُرْسَ، وَقَيْصَرُ لِمَنْ مَلَكَ الرُّومَ.
{كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} أَيْ: كُلٌّ مِنْ
هَذِهِ الْأُمَمِ وَهَؤُلَاءِ الْقُرُونِ كَذَّبَ رَسُولَهُ، وَمَنْ كَذَّبَ
رَسُولًا فَكَأَنَّمَا كَذَّبَ جَمِيعَ الرُّسُلِ، كَقَوْلِهِ: {كَذَّبَتْ قَوْمُ
نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 105] ، وَإِنَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ
وَاحِدٌ، فَهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَوْ جَاءَهُمْ جَمِيعُ الرُّسُلِ
كَذَّبُوهُمْ، {فَحَقَّ وَعِيدِ} أَيْ: فَحَقَّ عَلَيْهِمْ مَا أَوْعَدَهُمُ
اللَّهُ، عَلَى التَّكْذِيبِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ فَلْيَحْذَرِ
الْمُخَاطَبُونَ أَنْ يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَدْ كَذَّبُوا
رَسُولَهُمْ كَمَا كَذَّبَ أُولَئِكَ.
وَقَوْلُهُ: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ
الأوَّلِ} أَيْ: أَفَأَعْجَزَنَا ابْتِدَاءُ الْخَلْقِ حَتَّى هُمْ فِي شَكٍّ مِنَ
الْإِعَادَةِ، {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} وَالْمَعْنَى: أَنَّ
ابْتِدَاءَ الْخَلْقِ لَمْ يُعْجِزْنَا، وَالْإِعَادَةُ أَسْهَلُ مِنْهُ، كَمَا
قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ
أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الرُّومِ: 27] ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَضَرَبَ لَنَا
مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ
يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}
[يس: 78-79] ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحِ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:
يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ، يَقُولُ: لَنْ
يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي ، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ
إِعَادَتِهِ"
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا عُلُوْمَاً نَافِعَةً وَأَعْمَالَاً
صَالِحَةً مُتَقَبَّلَةً وَأَرْزَاقَاً طَيِّبَةً مُبَارَكَةً وَاسِعَةً، اللَّهُمَّ
إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى اللَّهُمَّ إِنَّا
نَعُوْذُ بِكَ مِنْ قُلُوْبٍ لَا تَخْشَعْ وَمِنْ عُلُوْمٍ لَا تَنْفَعْ وَمِنْ
نُفُوْسٍ لَا تَشْبَعْ وَمِنْ دَعَوَاتٍ لَا تُسْمَعْ وَمِنْ عُيُوْنٍ لَا
تَدْمَعْ اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوْذُ بِكَ مِنْ النِّفَاقِ وَالشِّقَاقِ وَسَيِّءِ
الْأَخْلَاقِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ وَالْمُعَافَاةَ
اللَّهُمَّ آتِنَا فِيْ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِيْ الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ
النَّارِ وَجَمِيْعِ الْمُسْلِمِيْنَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا
وَجَمِيْعِ الْمُسْلِمِيْنَ، اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا وَوُلَاةَ أَمُوْرِنَا وَجَمِيْعِ
الْمُسْلِمِيْنَ لِتَحْكِيْمِ شَرْعِكَ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى
آلِ مُحَمَّدٍ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَالْحَمْدً لِله
رَبِّ الْعِالَمِيْنَ.
روابط مباشرة للقراءة وتحميل الخطبة:
بصيغة pdf:
word:
تعليقات
إرسال تعليق