إِعْلَامُ الخَلَف بِبَعضِ مَنْ هَرَبَ مِنَ القَضَاءِ مِنْ أَئمَّةِ السَّلَف مَعَ بَيَانِ الأَسْبَابِ بِلَا كَلَف

إِعْلَامُ الخَلَف بِبَعضِ مَنْ هَرَبَ مِنَ القَضَاءِ مِنْ أَئمَّةِ السَّلَف مَعَ بَيَانِ الأَسْبَابِ بِلَا كَلَف

بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، أما بعد:

فإن الدين النصيحة، ومن أعظم النصيحة نشر العلم النافع لعامة المسلمين، تذكيراً للناسي، وتعليماً للجاهل، ولإعلامهم بما هو أصلح وأسلم لهم وأرفق بهم، فكم من مريدٍ للخير لم يصبه، ولن يصيبه إذا استمر في جهله، فأذكِّرُ نفسي أولاً وإخواني المسلمين ثانياً مستعيناً بالله ومتوكلاً عليه بعدم إرادة القضاء وطلبه، وذلك امتثالاً لأمر النبي _صلى الله عليه وسلم_ وأيضاً البعد عنه قدر المستطاع حتى لو طُلبنا إليه، إلا مَنْ لابد منه إذا كان عالماً وأهلاً للقضاء، فإن طائفة من سلفنا الصالح _رحمهم الله ورضي عنهم_ كانوا يهربون من القضاء أَشدَّ الهرب، مع كونهم علماء كبار وأئمة أجلاء مستطيعين، حتى لو طلبهم السلاطين وولاة الأمر لذلك فإنهم يعتذرون بأشياء ليسلموا من القضاء، بل بعضهم كان يُلَحُّ عليهم أشدَّ الإلحاحِ ليكونوا قضاة فيرفضون ذلك، بل بعضهم أُعتقِلَ وسُجِنَ لرفضِهِ أن يكون قاضياً ومع ذلك يهربون، حتى إن بعضهم اختفى عن الأنظار، وبعضهم رحل من بلده إلى بلد آخر!، بل بعضهم لما أراده السلطان على القضاء صلى ركعتين وسأل الله الموت!!، ولذلكم عدة أسباب من أهمها:

1- الخوف من الفتنة في الدين، فإن القاضي من أكثر الناس امتحاناً في الدين، وومن أكثرهم تعرضاً لفتنة الحياة الدنيا مع إمكانية الحصول على كثير منها، وكل الناس بما فيهم السلاطين والوزراء ومن دونهم يطمعون في القاضي إذا احتاجوه.
2- يهربون من القضاء طلباً للسلامة، فالسلامة لا يعدلها شيء، إِذِ القضاء مسؤولية عظيمة وولاية كبيرة لا يسلم من تَبِعَاتِهَا إلا مرحومٌ موفقٌ.
3- يهربون من القضاء ورعاً، فالورع باختصار هو: ترك ما يريب إلى ما لا يريب.
4- ليتفرغوا لطلب العلم وتعليمه، وذلكم والله من أعظم الجهاد في سبيل الله.
5- للتفرغ للعبادة والتنسك.
6- لأن القاضي يعتبر حاكماً وسلطاناً، وإنْ كانت مسؤوليته أقل من مسؤولية الإمام الأعظم.
7- يعتبرون الولاية من البلاء والامتحان.

فهذه أهم الأسباب التي أدت بهم إلى الهرب من القضاء، وهناك أسباب أخرى أيضاً لا يصلح ذكرها في كل زمان ومكان، واللبيب بالإشارة يفهم.

فالسلف كانوا يهربون من القضاء فضلاً عن أن يسألون القضاء ويطلبونه!، وذلك امتثالاً لأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد قال _عليه الصلاة والسلام_ لعَبْد الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ: ((لَا تَسْأَل الْإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُوتِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا)). متفق عليه من حديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ واللفظ للبخاري.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الْإِمَارَةِ، وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ)). رواه أحمد (9925) والبخاري (7148) واللفظ له والنسائي (4222، 5400) وغيرهم.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ، أَوْ جُعِلَ قَاضِيًا بَيْنَ النَّاسِ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ)).
رواه أحمد (7266، 8898) وأبو داود (3571) والترمذي (1325) واللفظ له، وابن ماجة (2308) وابن أبي شيبة (23434، 23441) وأبو يعلى الموصلي في مسنده (5866، 6613) والدارقطني في سننه (4461 - 4463) والحاكم في مستدركه (7110) وغيرهم.

ومع الأسف توجد شبهة يعتقدها بعض الناس، وهي أن طلب الولاية والإمارة جائز!، واستدلوا بأن نبي الله يوسف _عليه السلام_ طلب الولاية كما في قوله تعالى عن يوسف: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)} [سورة يوسف]

ومن يقول هذا القول فهو مخطيء اجتزأ من القرآن ما يريد وترك ما يخالف قوله، إمَّا لجهله أو ابتداعه، حيث أنه اجتزأ هذه الآية وترك قوله تعالى في الآية التي قبلها: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)} فلم يسأل يوسف _عليه السلام_ الولاية ابتداءً، وإنما قَالَ {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} بعدما أراد الملك تمكينه وتنصيبه، فانتبه يا أخي لا يغرونك، واحذرهم لا يفتنونك.

فالسلامة السلامة خاصة في هذا الزمان، وإياك يا أخي أن يلبِّس عليك ملبس أو يُشَبِّه عليك مشبه بِأَنْ يقول: القضاء المعاصر أسهل من ذي قبل وأنه توجد أحكام جاهزة، فما على القاضي إلا أن يقيس هذا الحكم على ذاك، ثم يحكم، (...) فاهرب رحمك الله، ثم أنت يا مريد القضاء هل ترى أنك أهل للقضاء، وهل تظن أنه بمجرد الحصول على شهادة كلية ما أو معهد ما صرت مؤهلاً لأنْ تكون قاضياً؟! لا والذي رفع السماء، فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم، ثم ألا ترى إلى توفر القضاة اليوم وانتشارهم، فاعرف رحمك الله قدر نفسك وقلة علمك واتبع سبيل السلف الصالح، وإِنْ كُنتَ مخاطراً بِشَيءٍ فَلَا تُخَاطِر بِدِينِك، وعليك بميراث النبوة: العلم النافع تسلم وتنجح في الدنيا والآخرة إن وافق منك عملاً وإخلاصاً.

وبعدُ فسأذكر بعض من هرب من القضاء من السلف الصالح _رضي الله عنهم ورحمهم_ مع بعض القصص المؤثرة لإثبات ما ذكرت أعلاه، وللنصيحة والاعتبار، فمنهم:

1- الإِمَامُ، شَيْخُ الإِسْلاَمِ، أَبُو قِلاَبَةَ الجَرْمِيُّ عَبْدُ اللهِ بنُ زَيْدِ، روى له الجماعة. [المتوفى سنة: 104]:
قال الذهبي: ( قَالَ حَمَّادٌ: سَمِعْتُ أَيُّوْبَ ذَكَرَ أَبَا قِلاَبَةَ، فَقَالَ: كَانَ -وَاللهِ- مِنَ الفُقَهَاءِ ذَوِي الأَلْبَابِ، إِنِّي وَجَدْتُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِالقَضَاءِ أَشَدَّهُم مِنْهُ فِرَاراً، وَأَشَدَّهُم مِنْهُ فَرَقاً؛ وَمَا أَدْرَكْتُ بِهَذَا المِصْرِ أَعْلَمَ بِالقَضَاءِ مِنْ أَبِي قِلاَبَةَ، لاَ أَدْرِي مَا مُحَمَّدٌ ). 
ثم روى عن ابْنُ عُلَيَّةَ: عَنْ أَيُّوْبَ، قَالَ: ( لَمَّا مَاتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ أُذَيْنَةَ -يَعْنِي: قَاضِي البَصْرَةِ- زَمَنَ شُرَيْحٍ، ذُكِرَ أَبُو قِلاَبَةَ لِلْقَضَاءِ (يعني أن الولاة أرادوا يجعلونه قاضياً مكان القاضي المتوفى)، فَهَرَبَ حَتَّى أَتَى اليَمَامَةَ. قَالَ: فَلَقِيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقُلْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: مَا وَجَدْتُ مَثَلَ القَاضِي العَالِمِ إِلاَّ مَثَلَ رَجُلٍ وَقَعَ فِي بَحْرٍ، فَمَا عَسَى أَنْ يَسْبَحَ حَتَّى يَغْرَقَ ).
وقال الذهبي أيضا: ( وَقَدْ أَخْبَرَنِي عَبْدُ المُؤْمِنِ شَيْخُنَا: أَنَّ أَبَا قِلاَبَةَ مِمَّنْ ابْتُلِيَ فِي بَدَنِهِ وَدِيْنِهِ، أُرِيْدَ عَلَى القَضَاءِ، فَهَرَبَ إِلَى الشَّامِ، فَمَاتَ بِعَرِيْشِ مِصْرَ، سَنَةَ أَرْبَعٍ -ومائة-، وَقَدْ ذَهَبَتْ يَدَاهُ وَرِجْلاَهُ وَبَصَرُهُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ حَامِدٌ شَاكِرٌ ). [سير أعلام النبلاء ج4 ص474].
وقال الذهبي أيضا: (رَوَى: الوَلِيْدُ بنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جَابِرٍ، قَالَ: قِيْلَ لِعَبْدِ المَلِكِ بنِ مَرْوَانَ: هَذَا أَبُو قِلاَبَةَ. قَالَ: مَا أَقْدَمَهُ؟ قَالُوا: مُتَعَوِّذاً مِنَ الحَجَّاجِ، أَرَادَهُ عَلَى القَضَاءِ، فَكَتَبَ إِلَى الحَجَّاجِ بِالوَصَاةِ بِهِ. فَقَالَ أَبُو قِلاَبَةَ: لَنْ أَخْرُجَ مِنَ الشَّامِ ). (المصدر السابق).

2- الإِمَامُ، شَيْخُ الإِسْلاَمِ في وَقْته، التَّابِعيُّ الجَليلُ مُحَمَّدُ بنُ سِيْرِيْنَ، أَبُو بَكْرٍ الأَنْصَارِيُّ، البَصْرِيُّ، مَوْلَى أَنَسِ بنِ مَالِكٍ خَادِمِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. [المتوفى سنة: 110]:
قال ابن العماد: وكان ابن سيرين غاية في العلم نهاية في العبادة روى عن كثير من الصحابة وروى عنه الجم الغفير من التابعين، وأُريد على القضاء فهرب إلى الشام ثم أتى المدينة. [شذرات الذهب في أخبار من ذهب ج1 ص133].

3- الإِمَامُ أبو هاشم الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عبد الله بن عيّاش بن أبي ربيعة المخزومي القرشي المدني، روى له البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة. [المتوفى سنة: 186 أو 188]:
قال الذهبي: ( قال الزبير: عَرَضَ عليه الرَّشيدُ قضاء المدينة وجائزة أربعة آلاف دينار فامتنع ، وكان فقيه أهل المدينة بعد مالك. مات سنة ست أو ثمان وثمانين ومائة).  [الكاشف ج2 ص286]. و [تاريخ الإسلام ج4 ص 981].

4- الإِمَامُ، الحَافِظُ، المُقْرِئُ، القُدوَةُ، شَيْخُ الإِسْلاَمِ، عَبْدُ اللهِ بنُ إِدْرِيْس أَبُو مُحَمَّدٍ، الأَوْدِيُّ، الكُوْفِيُّ. روى له الجماعة. [المتوفى سنة: 192]:
قال الذهبي: وَرُوِيَ عَنْ رَجُلٍ، عَنْ وَكِيْعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللهِ بنَ إِدْرِيْسَ امْتنعَ مِنَ القَضَاءِ، وَقَالَ لِلرَّشِيْدِ: لاَ أَصلُحُ !.
فَقَالَ الرَّشِيْدُ: وَدِدْتُ أَنِّيْ لَمْ أَكنْ رَأَيتُكَ. فَقَالَ: وَأَنَا وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ رَأَيتُك، فَخَرَجَ، ثُمَّ وَلَّى حَفْصَ بنَ غِيَاثٍ، وَبَعَثَ الرَّشِيْدُ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ إِلَى ابْنِ إِدْرِيْسَ، فَقَالَ لِلرَّسولِ - وَصَاحَ بِهِ -: مُرَّ مِنْ هُنَا. (أي: اذهب، ولم يأخذ المال) فَبَعَثَ إِلَيْهِ الرَّشِيْدُ: لَمْ تَلِ لَنَا، وَلَمْ تَقْبَلْ صِلَتَنَا؟!، فَإِذَا جَاءكَ ابْنِي المَأْمُوْنُ، فَحَدِّثْه. فَقَالَ: إِنْ جَاءَ مَعَ الجَمَاعَةِ حَدَّثْنَاهُ، وَحَلَفَ أَلاَ يُكَلِّمَ حَفْصَ بنَ غِيَاثٍ حَتَّى يَمُوْتَ!. [سير أعلام النبلاء ج9 ص47].

5- الإِمَامُ، شَيْخُ الإِسْلاَمِ، عَبْدُ اللهِ بنُ وَهْبِ بنِ مُسْلِمٍ، أَبُو مُحَمَّدٍ الفِهْرِيُّ مَوْلاَهُمْ، المِصْرِيُّ، الحَافِظُ، روى له الجماعة، وهو صاحب كتاب الجامع في الحديث. [ت 197]:
قال الذهبي في ترجمته: قالَ أَحْمَدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَحْشَلٌ: طَلَبَ عَبَّادُ بنُ مُحَمَّدٍ الأَمِيْرُ عَمِّيَ (وعمه: عبد الله بن وهب) لِيُوَلِّيَهُ القَضَاءَ، فَتَغَيَّبَ عَمِّي، فَهَدَمَ عَبَّادٌ بَعْضَ دَارِنَا، فَقَالَ الصَّبَّاحِيُّ لِعَبَّادٍ: مَتَى طَمِعَ هَذَا الكَذَا وَكَذَا (أي قال كلمة تنقص) أَنْ يَلِيَ القَضَاءَ؟! فَبَلَغَ ذَلِكَ عَمِّي، فَدَعَا عَلَيْهِ بِالعَمَى. قَالَ: فَعَمِيَ الصَّبَّاحِيُّ بَعْدَ جُمُعَةٍ. قَالَ حَجَّاجُ بنُ رِشْدِيْنَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بنَ وَهْبٍ يَتَذَمَّرُ وَيَصِيْحُ، فَأَشرَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ غُرْفَتِي، فَقُلْتُ: مَا شَأْنُكَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: يَا أَبَا الحَسَنِ! بَيْنَمَا أَنَا أَرْجُو أَنْ أُحْشَرَ فِي زُمْرَةِ العُلَمَاءِ، أُحشَرُ فِي زُمْرَةِ القُضَاةِ؟!. قَالَ: فَتَغَيَّبَ فِي يَوْمِهِ، فَطَلبُوْهُ. قَالَ يُوْنُسُ بنُ عَبْدِ الأَعْلَى: كَانُوا أَرَادُوا ابْنَ وَهْبٍ عَلَى القَضَاءِ، فَتَغَيَّبَ. [سير أعلام النبلاء ج9 ص223]. وكان حرملة بن يحيى تلميذ ابن وهب أكثر الرواة عنه وذلك أن شيخه ابن وهب تغيَّب عنده مدةً طويلة هرباً من القضاء. قال ابن حجر في ترجمة حرملة: ونقل أبو عمر الكندي أن سبب كثرة سماعه من ابن وهب أن ابن وهب استخفى عندهم لما طُلِبَ للقضاء. [تهذيب التهذيب ج2 ص201].

6- إِبْرَاهِيم بْن رستم أَبُو بَكْر الفقيه المروزي [ت 210]: 
قال الخطيب البغدادي: وعُرِضَ عَلَيْهِ القضاء فلم يقبله، فدعاه المأمون فقربه منه وحدثه، وأتاه ذو الرياستين إِلَى منزله مسلما، فلم يتحرك له. [تاريخ بغداد ج6 ص587].

7- الحَافِظُ، العَلاَّمَةُ، الثِّقَةُ، نَصْرُ بنُ عَلِيِّ، أَبُو عَمْرٍو الأَزْدِيُّ، الجَهْضَمِيُّ، البَصْرِيُّ [ت 250]:
روى الذهبي بإسناده عن أَبي بَكْر بنَ أَبِي دَاوُدَ قال: كَانَ المُسْتَعِيْنُ بِاللهِ بَعَثَ إِلَى نَصْرِ بنِ عَلِيٍّ يُشْخِصُهُ لِلْقَضَاءِ، فَدَعَاهُ عَبْدُ المَلِكِ أَمِيْرُ البَصْرَةِ، وَأَمَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: أَرْجِعُ، وأَسْتَخِيْرُ اللهَ -تَعَالَى-. فَرَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ نِصْفَ النَّهَارِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ لِي عِنْدَكَ خَيْرٌ، فَاقبِضْنِي. فَنَامَ، فَأَنبَهُوهُ، فَإِذَا هُوَ مَيِّتٌ. [سير أعلام النبلاء ج12 ص133].
قلت: كل هذا لخطورة منصب القضاء، والظن به _رحمه الله_ أنه سأل الله الموت خوفاً من ضرر في دينه أو فتنة فيه، لأنه لا يخفى على إمام مثله قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّياً لِلْمَوْتِ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْراً لِي وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْراً لِي)). متفق عليه من حديث أنس. وسؤال الله الموت عند الخوف من فتنة الدين جائز كما قرره أهل العلم وقد فعل ذلك خلائق من السلف، وأما غير ذلك فلا، والله أعلم.

8- الإِمَامُ أبو سليمان الجَوْزَجَانِيُّ مُوْسَى بنُ سُلَيْمَانَ الحَنَفِيُّ [المتوفى بعد المائتين للهجرة]:

قال الذهبي: وقيل: إِنَّ المَأْمُوْنَ عَرَضَ عَلَيْهِ القَضَاءَ، فَامْتَنَعَ، وَاعْتَلَّ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ، فَأَعْفَاهُ، وَنَبُلَ عِنْدَ النَّاسِ لامْتِنَاعِهِ. [سير أعلام النبلاء ج10 ص194].
وذكر الخطيب البغدادي هذه القصة بإسناده عن إبراهيم بن سعيد قال: أحضر المأمونُ موسى بن سليمان، ومعلى الرازي، فبدأ بأبي سليمان لسِنِّه وشهرته بالورع، فعرض عليه القضاء، فقال: يا أمير المؤمنين، احفظ حقوق الله في القضاء، ولا تولِّ على أمانتك مثلي، فإني والله غير مأمون الغضب، ولا أرضى نفسي لله أن أحكم في عباده، قَالَ: صدقت، وقد أعفيناك، فدعا له بخير. [تاريخ بغداد ج15 ص26].

9- إمام المفسرين مُحَمَّدُ بنُ جَرِيْرِ بنِ يَزِيْدَ بنِ كَثِيْرٍ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيّ [ت 310]:

قال الذهبي: قَالَ الفرغَانِي: وَكَتَبَ إِلَيَّ المرَاغِي، قَالَ: لَمَّا تقلَّد الخَاقَانِيُّ الوِزَارَةَ وَجَّهَ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِي بِمَالٍ كَثِيْرٍ، فَامْتَنَعَ مِنْ قَبُوله، فَعَرض عَلَيْهِ القَضَاء فَامْتَنَعَ، فَعَرض عَلَيْهِ المَظَالِم فَأَبَى، فَعَاتبه أَصْحَابه وَقَالُوا: لَكَ فِي هَذَا ثَوَاب، وَتُحْيِي سُنَّةً قَدْ دَرَسَتْ. وَطمعُوا فِي قَبُوله المَظَالِم، فَبَاكروهُ لِيَرْكَبَ مَعَهُم لقبُول ذَلِكَ، فَانتَهَرَهُم وَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَظُنُّ أَنِّي لَوْ رغبتُ فِي ذَلِكَ لَنَهَيْتُمُونِي عَنْهُ. قَالَ: فَانْصَرَفْنَا خَجِلين.
[سير أعلام النبلاء ج14 ص275].

10- الإِمَامُ، شَيْخُ الشَّافِعِيَّة ابْنُ خَيْرَانَ أَبُو عَلِيٍّ الحُسَيْنُ بنُ صَالِحٍ البَغْدَادِيُّ [ت 320]:
قال الذهبي: قَالَ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: كَانَ أَبُو عَلِيٍّ بنُ خَيْرَان، يُعَاتِب ابْن سُرَيْج عَلَى القَضَاءِ وَيَقُوْلُ: هَذَا الأَمْرُ لَمْ يَكُنْ فِي أَصحَابنَا، إِنَّمَا كَانَ فِي أَصْحَاب أَبِي حَنِيْفَةَ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: عُرض عَلَى ابْنِ خَيْرَان القَضَاء، فَلَمْ يتقلَّدْه، وَكَانَ بَعْضُ وَزرَاء المُقْتَدِر وُكِّلَ بِدَاره ليلِيَ القَضَاء، فَلَمْ يتقلَّد. وَخُوطِبَ الوَزِيْر فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّمَا قَصَدْنَا التَّوَكِيْل بدَاره ليُقَال: كَانَ فِي زَمَانِنَا مَنْ وُكِّلَ بدَاره ليتقلَّد القَضَاء فَلَمْ يَفْعَلْ. وَقَالَ ابْنُ زُوْلاَق: شَاهَد أَبُو بَكْرٍ بنُ الحَدَّاد الشَّافِعِيّ بِبَغْدَادَ سَنَة عَشْرٍ وَثَلاَثِ مائَةٍ بَاب أَبِي عَلِيّ بن خَيْرَان مسموراً لامتنَاعه مِنَ القَضَاء، وَقَدِ استَتَر. قَالَ: فَكَانَ النَّاسُ يَأْتُوْنَ بِأَولأَدِهِم الصِّغَار، فَيَقُوْلُوْنَ لَهُم: انْظُرُوا حَتَّى تُحدِّثُوا بِهَذَا. [سير أعلام النبلاء ج15 ص59].
وقال ابن الجوزي: قال أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبيد العسكري: أريد أبو علي بن خيران للقضاء فامتنع فوُكِّلَ علي بن عيسى الوزير ببابه، فشاهدت الموكلين ببابه وختم الباب بضعة عشر يوماً. فقال لي أبي: يا بني أنظر حتى تحدث بهذا إن عشت إن إنساناً فُعِل هذا به لِيَلِي فامتنع. وكلم الوزير فأعفاه.
وعن أبي عبد الله الحسين بن محمد الفقيه الكشفلي أن علي بن عيسى وزير المقتدر بالله أمر نازوك صاحب البلد يطلب الشيخ أبا علي بن خيران الفقيه الشافعي حتى يعرض عليه قضاء القضاة فاسْتَتَر فوكل بباب داره رجاله بضعة عشر يوماً حتى احتاج إلى الماء، فلم يقدر عليه إلا من عند الجيران، فبلغ الوزير ذلك فأمر بإزالة التوكل عنه وقال في مجلسه والناس حضور: ما أردنا بالشيخ أبي علي بن خيران إلا خيراً أردنا أن يعلم أن في مملكتنا رجلاً نعرض عليه قضاء القضاة شرقاً وغرباً وهو لا يقبل. [صفة الصفوة ج2 ص450].

11- فقيه الأندلس زياد بن عبد الرحمن اللخمي، شبطون صاحب الإمام مالك. [ت 339]:
قال ابن العماد: وكان زياد ناسكا ورعاً، أُرِيدَ على القضاء فهرب. [شذرات الذهب في أخبار من ذهب ج1 ص333].

12- جَعْفَر بن مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاق أَبُو مُحَمَّد التنوخي [ت 377]:
قال الخطيب البغدادي: وعُرِضَ عليه القضاء والشهادة فأباهما تورعاً، وتقللاً، وصلاحاً. [تاريخ بغداد ج8 ص153].

13- عَالِمُ الأَنْدَلُس، وَشَيْخُ المَالِكِيَّة، أَبُو عُمَرَ أَحْمَدُ بنُ عَبْدِ المَلِكِ بنِ هَاشِمٍ الإِشْبِيْلِيُّ، ابْنُ المَكْوِيِّ. [ت 401]:
قال ابن بشكوال في ترجمته: من أهل المتانة في دينه، والصلابة في رأيه، والبعد عن هوى نفسه، لا يداهن السلطان، ولا يميل معه بهوادةٍ، ولا يدع صدقه في الحق إذا ضايقه. وكان القريب والبعيد عنده في الحق سواء. ودُعِيَ إلى القضاء بقرطبة مرتين فأبى من ذلك واعتذر واستعفى عنه ولم يُجِب إليه البتة. [الصلة ج1 ص7].

14- الإِمَامُ، العَلاَّمَةُ، المُحَدِّثُ، مُفْتِي قُرْطُبَة، أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ عَتَّابِ بنِ مُحْسِنٍ الأَنْدَلُسِيُّ [ت 462]:
قال الذهبي: وَكَانَ مُتَفَنِّناً فِي العِلْمِ، حَافِظاً لِلأَخْبَار وَالأَشعَار وَالأَمثَال، صَليباً فِي الحَقِّ، مُنْقَبِضاً عَنِ السُّلْطَان وَأَسبَابه، مُتوَاضعاً، مُقتصداً فِي مَلبسه، يَتولَّى حوَائِجه بِنَفْسِهِ. وَكَانَ شَيْخَ أَهْلِ الشُّوْرَى فِي زَمَانِهِ، وَعَلَيْهِ كَانَ مدَارُ الفَتْوَى، دُعِي إِلَى قَضَاء قُرْطُبَة مرَاراً، فَأَبَى. (أي: رفض القضاء). [السير ج18 ص328].

15- مُسْنِدُ الشَّامِ، شَيْخُ الإِسْلاَمِ، قَاضِي القُضَاةِ، جَمَالُ الدِّيْنِ، أَبُو القَاسِمِ ابْنُ الحَرَسْتَانِيِّ عَبْدُ الصَّمَدِ بنُ مُحَمَّدٍ الأَنْصَارِيُّ [ت 614]:
قال الذهبي في ترجمته: ( قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَكَانَتْ لَهُ جَنَازَة عَظِيْمَة، وَقَدِ امْتَنَع مِنَ القَضَاء، فَأَلحُّوا عَلَيْهِ، وَكَانَ صَارِماً، عَادِلاً، عَلَى طرِيقَة السَّلَف فِي لِبَاسه وَعفته ). [سير أعلام النبلاء ج22 ص82].

واعلموا رحمكم الله أن هؤلاء هربوا من القضاء ولم يباشروه البتة، وأما من صار قاضياً ثم هرب منه بعد ذلك فأكثر، والله المستعان.

هذا وأسأل الله أن يوفقني لما يحب ويرضى وأن يلهمني رشدي وجميع المسلمين إنه سميع قريب مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا ورسولنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

وكتب 
عبد الله بن سعيد الهليل الشمري
عضو هيئة التدريس بجامعة حائل
6 / من ذي القعدة / 1439هـ
وتمت بعض الإضافات في 27 جمادى الثانية 1442

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بيان أن الصحابة كانوا يقولون في تشهد الصلاة (السلام عليك أيها النبي) بصيغة المُخَاطَبة، في حياة النبي ﷺ، وبيان أنهم كانوا يقولون (السلام على النبي) بصيغة: الْغَيْبَةِ، بعد وفاة النبي ﷺ

حَدِيْثُ أَنَسٍ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ الثُّفْلُ.

خطبة الجمعة (فضل العلم وأهله وفضل النفقة على أهله والحث على طلبه)