حبوط العمل، أنواعه ومسبباته، والتحذير منه
بسم الله الرحمن الرحيم
حبوط العمل أنواعه ومسبباته والتحذير منه _سائلين الله العافية_
قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمة الله عليه :
فصل
والحبوط نوعان: عام وخاص، فالعام حبوط الحسنات كلها بالردة، والسيئات كلها بالتوبة، والخاص حبوط السيئات والحسنات بعضها ببعض وهذا حبوط مقيد جزئي وقد تقدم دلالة القرآن والسنة والآثار وأقوال الأئمة عليه، ولما كان الكفر والإيمان كل منهما يبطل الآخر ويذهبه كانت شُعبَةُ كل واحد منهما لها تأثير في إذهاب بعض شُعَبِ الآخر فإن عظمت الشعبة ذهب في مقابلتها شعب كثيرة، وتأمل قول أم المؤمنين في مستحل العينة إنه قد أبطل جهاده مع رسول الله كيف قويت هذه الشعبة التي أذن الله فاعلها بحربه وحرب رسوله على إبطال محاربة الكفار!، فأبطلَ الحِرابُ المكروهُ الحرابَ المحبوبَ، كما تُبْطلُ محاربةُ أعدائه التي يحبها محارَبَتَه التي يبغضُها والله المستعان.
[الصلاة وأحكام تاركها ج١ ص٦٥]
وقال أيضاً في موضع آخر :
ومحبطات الأعمال ومفسداتها أكثر من أن تحصر، وليس الشأن في العمل، إنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه.
فالرياء وإن دق محبط للعمل، وهو أبواب كثيرة لا تحصر، وكون العمل غير مقيد باتباع السنة أيضاً موجب لكونه باطلاً، والمن به على الله تعالى بقلبه مفسد له، وكذلك المن بالصدقة والمعروف والبر والاحسان والصلة مفسد لها.
كما قال سبحانه وتعالى:
{يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} وأكثر الناس ما عندهم خبر من السيئات التي تحبط الحسنات، وقد قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} فحذر المؤمنين من حبوط أعمالهم بالجهر لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما يجهر بعضهم لبعض، وليس هذا برِدَّة، بل معصية تحبط العمل وصاحبها لا يشعر بها، فما الظن بمن قدم على قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهديه وطريقه قول غيره وهديه وطريقه؟
أليس هذا قد حبط عمله وهو لا يشعر؟ ومن هذا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله» ومن هذا قول عائشة رضى الله تعالى عنها وعن أبيها لزيد بن أرقم رضى الله عنه لما باع بالعينة: إنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلا أن يتوب.
وليس التبايع بالعينة ردة، وإنما غايته أنه معصية، فمعرفة ما يفسد الأعمال في حال وقوعها ويبطلها ويحبطها بعد وقوعها من أهم ما ينبغي أن يفتش عليه العبد ويحرص على عمله ويحذره.
وقد جاء في أثر معروف إن العبد ليعمل العمل سراً لا يطلع عليه أحداً إلا الله تعالى فيتحدث به فينتقل من ديوان السر إلى ديوان العلانية ثم يصير في ذلك الديوان على حسب العلانية فإن تحدث به للسمعة وطلب الجاه والمنزلة عند غير الله تعالى أبطله كما لو فعله لذلك.
فإن قيل: فإذا تاب هذا هل يعود إليه ثواب العمل؟ قيل: إن كان قد عمله لغير الله تعالى وأوقعه بهذه النية فإنه لا ينقلب صالحاً بالتوبة، بل حسب التوبة أن تمحو عنه عقابه فيصير لا له ولا عليه.
وإما أن عمله لله تعالى خالصاً ثم عرض له عجب ورياء أو تحدث به ثم تاب من ذلك وندم فهذا قد يعود له ثواب عمله ولا يحبط.
وقد يقال: إنه لا يعود إليه بل يستأنف العمل.
والمسألة مبنية على أصل، وهو أن الردة هل تحبط العمل بمجردها أو لا يحبطه إلا الموت عليها؟ فيه للعلماء قولان مشهوران وهما روايتان عن الإمام أحمد رضى الله عنه.
فإن قلنا تحبط العمل بنفسها فمتى أسلم استأنف العمل وبطل ما كان قد عمل قبل الاسلام.
وإن قلنا لا يحبط العمل إلا إذا مات مرتداً، فمتى عاد إلى الاسلام عاد إليه ثواب عمله.
وهكذا العبد إذا فعل حسنة ثم فعل سيئة تحبطها ثم تاب من تلك السيئة هل يعود إليه ثواب تلك الحسنة المتقدمة؟ يخرج على هذا الاصل.
ولم يزل في نفسي من هذه المسألة: ولم أزل حريصاً على الصواب فيها وما رأيت أحداً شفي فيها، والذي يظهر ـ والله تعالى أعلم وبه المستعان ولا قوة إلا به ـ ان الحسنات والسيئات تتدافع وتتقابل ويكون الحكم فيها للغالب وهو يقهر المغلوبين ويكون الحكم له حتى كأن المغلوب لم يكن، فإذا غلبت على العبد الحسنات رفعت حسناته الكثيرة سيئاته، ومتى تاب من السيئة ترتبت على توبته منها حسنات كثيره قد تربى وتزيد على الحسنة التي حبطت بالسيئة، فإذا عزمت التوبة وصحت ونشأت من صميم القلب أحرقت ما مرت عليه من السيئات حتى كأنها لم تكن، فإن التائب من الذنب لا ذنب له.
وقد سأل حكيم بن حزام رضي الله عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن عتاقة وصلة وبر فعله في الشرك: هل يثاب عليه؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أسلمت على ما أسلفت من خير)) فهذا يقتضي أن الاسلام أعاد عليه ثواب تلك الحسنات التي كانت باطلة بالشرك، فلما تاب من الشرك عاد إليه ثواب حسناته المتقدمة.
فهكذا إذا تاب العبد توبة نصوحاً صادقة خالصة أحرقت ما كان قبلها من السيئات وأعادت عليه ثواب حسناته، يوضح هذا أن السيئات هي أمراض قلبية، كما أن الحمى والاوجاع أمراض بدنية، والمريض إذا عوفي من مرضه عافية تامة عادت إليه قوته وأفضل منها حتى كأنه لم يضعف قط. فالقوة المتقدمة بمنزلة الحسنات، والمرض بمنزلة الذنوب، والصحة والعافية بمنزلة التوبة، وكما أن المريض من لا تعود إليه صحته أبداً لضعف عافيته، ومنهم من تعود صحته كما كانت لتقاوم الأسباب وتدافعها ويعود البدن إلى كماله الأول، ومنهم من يعود أصح مما كان وأقوى وأنشط لقوة أسباب العافية وقهرها وغلبتها لاسباب الضعف والمرض حتى ربما كان مرض هذا سبباً لعافيته كما قال الشاعر:
لعل عتبك محمود عواقبه
وربما صحت الأجسام بالعلل.
فهكذا العبد بعد التوبة على هذه المنازل الثلاث.
والله الموفق لا إله غيره ولا رب سواه.
المصدر:
الوابل الصيب من الكلم الطيب ج١ / ١٢
تعليقات
إرسال تعليق