مسألة عدم الانتقال مِنَ المكان بعد صلاة الجنازة حتى تُرفَع الجنازة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، أما بعد:
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، أما بعد:
فقد أكثر علي أحد الإخوة بإيراد مسألة غريبة وهي: عدم التحرك من المكان بعد أداء صلاة الجنازة حتى تُرفَع الجنازة من مكانها الذي صُلِّيَ عليها فيه، معتمداً هذا الأخ في ذلك على كلام ابن قدامة في كتابه (المغني)، حيث ذكر أثراً لمجاهدٍ رحمه الله، فعزمتُ على بحث المسألة والتحقق منها وهل ورد فيها حديث أو أثر صحيح عن أحد من الصحابة؟
فكان هذا البحث بتوفيق الله:
(فَصْلٌ: وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: إذَا صَلَّيْتَ فَلَا تَبْرَحْ مُصَلَّاكَ حَتَّى تُرْفَعَ. قَالَ وَرَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ لَا يَبْرَحُ مُصَلَّاهُ إذَا صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ حَتَّى يَرَاهَا عَلَى أَيْدِي الرِّجَالِ. قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ لَا تُنْقَضُ الصُّفُوفُ حَتَّى تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ). (المغني، له، كتاب الجنائز، فَصْلٌ لَا تُنْقَضُ الصُّفُوفُ حَتَّى تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ، 1567، ج2 ص367).
وبعد البحث لم أجد أثر مجاهد هذا في كتب السنة بهذا اللفظ.
ثم وقفت -بتوفيق الله- على أثر ضعيف رواه عَبْدُ الرَّزَّاقِ في مصنفه، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ كَثِيرٍ، أَنَّ مُجَاهِداً قَالَ: كَانَ يُقَالُ: إِذَا مَا صَلَّيْتُمْ عَلَى الْجِنَازَةِ فَقُومُوا حَتَّى تُرْفَعَ، فَحَوَّلَهَا النَّاسُ، فَقَالُوا: قُومُوا حَتَّى تُوضَعَ. (مصنف عبد الرزاق 6325، ج3 ص463). وقفت عليه عن طريق الشيخ المحقق الأستاذ الدكتور ابن دهيش الشمري رحمه الله في تعليقه على كتاب (معونة أولي النُّهى شرح المنتهى، لابن النجار، ج3 ص61) الذي قام بتحقيقه.
وفي هذا الإسناد عَبْدُ اللهِ بْنُ كَثِير بن المُطَّلب بن أبي وداعة السهمي، القاص، قال ابن حجر: مقبول. (التاريخ الكبير للبخاري ج5 ص181)، (الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ج5 ص144)، (تهذيب الكمال ج15 ص464)، وانظر تعقيب الحافظ مغلطاي في (إكمال تهذيب الكمال ج8 ص133)، (التقريب ج1 ص524).
ومجاهد يقول فيه: (كان يقال)، ولم يذكر أحداً من الصحابة، فحينئذ لا يصح الاحتجاج به، لعدم ثبوته.
هذا وقد جاء خلاف ذلك، فروى عَبْدُ الرَّزَّاقِ أيضَاً، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كُنْتُ بِالْمَدِينَةِ فَشَهِدْتُ جِنَازَةَ أُمِّ عَمْرٍو بِنْتِ الزُّبَيْرِ، فَلَمَّا صُلِّيَ عَلَيْهَا جَلَسَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، فَقُمْتُ، فَقَالَ لِيَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: " اجْلِسْ "، فَقُلْتُ: بَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَكْرَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: اجْلِسْ فَلَا بَأْسَ عَلَيْكَ " . (مصنف عبد الرزاق 6315، ج3 ص461).
وهذا لا يصح الاعتماد عليه وحده في نسبة هذا الأمر إلى ابن عمر؛ لقول قتادة: (بلغني)، ولمْ يذكر راويه، وسيأتي بيان الصحيح.
وروى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَطَاءً قُلْتُ: إِذَا صَلَّيْتَ عَلَى جِنَازَةٍ وَكُنْتَ غَيْرَ مُتَّبِعِهَا ؟ قَالَ: أَدْخُلُ وَلَا أَنْظُرُ أَنْ تُرْفَعَ. (مصنف عبد الرزاق 6325، ج3 ص463).
وإسناده صحيح، ابن جُرَيج هو: شَيْخُ الحَرَمِ، عَبْدُ المَلِكِ بنُ عَبْدِ العَزِيْزِ بنِ جُرَيْجٍ، القُرَشِيُّ، مولاهم، الأُمَوِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ، وَأَوَّلُ مَنْ دَوَّنَ العِلْمَ بِمَكَّةَ. ثقة حَدَّثَ عَنْ: عَطَاءِ بنِ أَبِي رَبَاحٍ فَأَكْثَرَ وَجَوَّدَ. [التاريخ الكبير ج5 ص423]، [الجرح والتعديل ج5 ص156]، [السير ج6 ص325]، [التقريب ج1 ص617].
وفي هذا الأثر والذي قبله: جواز الانصراف أو الجلوس بعد الصلاة على الجنازة، حتى ولو لمْ تُرفع مِنْ مكانها.
وقال ابن النجار والْبُهوتي بعدما أوردا الأثر الذي نقله ابن قدامة -أعني أثر المذكور أعلاه-: (وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا أَنَّهُ صَلَّى وَلَمْ يَقِف). (معونة أولي النهى شرح المنتهى، لابن النجار، ج3 ص62)، (دقائق أولي النهى لشرح المنتهى، المعروف بشرح منتهى الإرادات، للبهوتي، ج1 ص361).
تنبيه: قال الباحث: إبراهيم عبد الرحيم، عند تخريجه لأثر مجاهد بأنه لم يقف عليه في كتب السنة المطبوعة!، كما في رسالته (تخريج الأحاديث الواردة في كتاب المغني للموفق ابن قدامة من بداية مسألة التكفين في القميص والمئزر واللفافة من كتاب الجنائز إلى نهاية باب زكاة الزروع والثمار من كتاب الزكاة)، -رسالة علمية مقدمة لنيل درجة الدكتوراة من الجامعة الإسلامية- ولم يذكر أو حتى ينبه على ما ذكرته أعلاه من أثر مجاهد، وقتادة عن ابن المسيب.
فالخلاصة: أن المسألة ما فيها حديث مرفوع البتة، ولا موقوف صحيح، مبلغ العلم، وما روي عن ابن عمر تقدم بيان ضعفه، ومنْ أفادني بشيء لم أقف عليه سأكون له شاكراً وداعياً، والله يتولانا وجميع الإخوان بحفظه ورحمته، وصلى الله وسلم على رسوله محمد وآله وصحبه.
وكتب
عبد الله بن سعيد الهليل الشمري
ليلة 1 من جمادى الثانية 1441
تعليقات
إرسال تعليق