التَّحْقِيْقُ الْمُحْكَمُ الْمُحَكَّمُ فِيْ مَسْأَلَةِ التَّكْبِيْرِ لِسُجُوْدِ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ الْمُعَظَّم


بسم الله الرحمن الرحيم




الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، أما بعد:



فإن كثيراً من مسائل فروع الدين اختلف فيها أهل العلم اختلافاً مُعتَبَراً عندهم، ولا يعدون كل خلافٍ مُعتَبَراً، فالخلاف غير المعتبر عندهم يردونه ولا يعبؤون به، ولا يذكرونه في المسائل الخلافية، إلا على سبيل التحذير منه، ومِنْ قائله أحياناً -إذا كان مستحقاً للتحذير-، وهناك الكثير من مسائل فروع الدين المختلف فيها اختلافاً معتبراً، وأما أسباب هذا الاختلاف فكثيرة، ليس هذا محل بسطها، ذكرها أهل العلم، وممن ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية كما في كتابه: (رَفْع المَلَام عن الأئمة الأَعلَام)، ومن المسائل المختلف فيها بين أهل العلم اختلافاً معتبراً: مسألة التكبير لسجود تلاوة القرآن في الصلاة، هل هو مشروع أم لا؟

لقد اتفق أهل العلم قاطبة على أن سجود تلاوة القرآن مشروع، ولكنهم اختلفوا في بعض أحكامه، كاختلافهم في وجوبه واستحبابه، وكاختلافهم في مشروعية التكبير له من عدمه، إلى غير ذلكم من أحكامه المختلف فيها بينهم، وقد خصصت هذا البحث لمسألة حكم التكبير له داخل الصلاة، وذكرت في آخره مسألة صفة السجود له خارج الصلاة، فأقول مستعيناً بالله ربي وحده لا شريك له، مستمداً منه المدد والإعانة:


ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن التكبير لسجود التلاوة: مشروع.



وهذا قد قيل أنه قال به مَالِكٌ والشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ في إحدى الروايات عنه(التمهيد لابن عبد البر ج19 ص133)، (المغني لابن قدامة ج1 ص444)، (بدائع الصنائع، للكاساني ج2 ص192).



أدلة القائلين بهذا القول:



1- استدلوا بحديث عبد الله بن عمر بن حفص العمري، عن نافع مولى ابْنِ عُمَر، عن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ عَلَيْنَا الْقُرْآنَ، فَإِذَا مَرَّ بِالسَّجْدَةِ كَبَّرَ، وَسَجَدَ، وَسَجَدْنَا مَعَهُ).


رواه عبد الرزاق عنه، كما في مصنفه (5911)، ومن طريقه أبو داود في سننه في كتاب الصلاة (1411). ومن طريق أبي داود: البيهقي في الكبرى (3842) 2/ 325.


وقد رواه أحمد في مسنده من طريق آخر عن عبد الله العمري أيضاً، وليس فيه ذكر للتكبير!، وسيأتي بحث حكمه من حيث القبول والرد.


ترجم له أبو داود فقال: (بَابٌ فِي الرَّجُلِ يَسْمَعُ السَّجْدَةَ، وَهُوَ رَاكِبٌ أَوْ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ)!.




2- واستدل المتأخرون من القائلين بالتكبير لسجود التلاوة في الصلاة بحديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ، وَيُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ.


وهذا الحديث متفق على صحته، رواه البخاري (785)، ومسلم (392) واللفظ له، ورواه آخرون، وقد جاء في معناه أحاديث أخرى عن جماعة من الصحابة كابن مسعود، وعمران بن حصين، وابن عمر، وابن عباس، وسيأتي بحث صحة الاستدلال به على تكبير سجود التلاوة.




مسألة متعلقة بقول القائلين بتكبير سجود التلاوة في الصلاة:


القائلون بمشروعية هذا التكبير اختلفوا في كيفيته أيضاً! فمنهم مَنْ يقول: يشرع التكبير لسجود التلاوة عند النزول للسجود فقط، لا عند الرفع منه، وبه قال جماعةٌ، منهم أبو حنيفة في إحدى الروايات عنه، ودليل هؤلاء ما رواه عبد الله العمري، عن نافع مولى ابْنِ عُمَر، عن ابْنِ عُمَرَ، عند عبد الرزاق وأبي داود المذكور آنفاً، فإنه لا يوجد فيه إلا التكبير عند النزول للسجود فقط!.



ومنهم مَنْ يقول: يُشرع التكبير لسجود التلاوة عند النزول له، وعند الرفع منه. ودليل هؤلاء: القياس على سجود السهو!، فأضافوا تكبيراً زائداً عما ورد في الحديث السابق، قياساً على سجود السهو!.




قال ابن قدامة:


وَلِأَنَّهُ سُجُودٌ مُنْفَرِدٌ، فَشُرِعَ لَهُ التَّكْبِيرُ فِي ابْتِدَائِهِ، وَالرَّفْعُ مِنْهُ كَسُجُودِ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَبَّرَ فِيهِ لِلسُّجُودِ وَالرَّفْعِ (يعني سجود السهو). وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِرَقِيّ التَّكْبِيرَ لِلرَّفْعِ (يعني سجود التلاوة). وَقَدْ ذَكَرَهُ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ الْقِيَاسُ كَمَا ذَكَرْنَا. [المغني ج1 ص444].





القول الثاني:


ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن التكبير لسجود التلاوة غير مشروع.

وهذه محاولة مني لاستقصاء أدلة القائلين بهذا القول، مع إضافة ما يفتح الله به علي إنه هو الفتاح العليم:

أدلة القائلين بهذا القول، ومناقشة أدلة القائلين بخلافه:


أولاً: لمْ يأتِ في حديثٍ صحيحٍ أو ضعيف دليلٌ صريح خاص يدل على التكبير لسجود التلاوة في الصلاة، وحديث عبد الله العمري لفظه عام، وسيأتي بيان ضعفه، وبيان الاختلاف في لفظه.


ثانياً: قالوا عن الحديث الذي فيه التكبير عند النزول لسجود التلاوة المذكور آنفاً: إنه ضعيف؛ ففي إسناده عبد الله بن عمر بن حفص العمري، قال البخاري: كان يحيى بن سعيد يضعفه. [التاريخ الكبير للبخاري ج5 ص145]، [الضعفاء الصغير للبخاري ج1 ص79]. وقال أبو حاتم: يُكتب حَديثه، ولا يحتج به. [الجرح والتعديل ج5 ص109]. وقال الدارقطني: ضعيف. [مَنْ تَكلَّم فيه الدَّارقطني لابن زريق ج2 ص74]، وقال ابن حبان: كَانَ مِمَّن غلب عَلَيْهِ الصّلاح وَالْعِبَادَة حَتَّى غفل عَن ضبط الْأَخْبَار وجودة الْحِفْظ للآثار فَرفع الْمَنَاكِير فِي رِوَايَته فَلَمَّا فَحُش خَطؤُهُ اسْتحق التّرْك!. [المجروحين لابن حبان ج2 ص6]، وقال الذهبي: صدوق في حفظه شيء. [ميزان الاعتدال ج2 ص415].
وانظر إن شئت: [تقريب التهذيب ج1 ص516]، [ضعفاء العقيلي ج2 ص375].


ثالثاً: قالوا هو مع ضعف راويه: عبد الله، قد خالفه أخوه الثقة، واسمه: عُبَيْدُ اللهِ وهو من رجال الشيخين، فقد رواه عُبَيْدُ اللهِ، عن نافع مولى ابْنِ عُمَر، عن ابْنِ عُمَرَ أيضاً، وليس فيه تكبير !، وهذا نصه: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَقْرَأُ سُورَةً فِيهَا سَجْدَةٌ، فَيَسْجُدُ وَنَسْجُدُ مَعَهُ حَتَّى مَا يَجِدُ بَعْضُنَا مَوْضِعًا لِمَكَانِ جَبْهَتِهِ". رواه البخاري (1076) ومسلم (575)، وجمعٌ غيرهما، مِنْ غير تكبير له !، وفي زيادة لمسلم من نفس الطريق: (فِي غَيْرِ صَلَاةٍ). (صحيح مسلم 575 ج2 ص88).
وقد كان عبد الله يُسأل عن الحديث في حياة أخيه أبي عثمان عبيد الله، فيرد السائل إلى أخيه، كما نقل عبد الله بن الإمام أحمد قال: (حَدثنِي أبي قَالَ حَدثنَا حُسَيْن بن الْوَلِيد النَّيْسَابُورِي قَالَ أبي ثِقَة أَن عبد الله بن عمر يَعْنِي الْعمريّ سُئِلَ عَن شَيْء من الحَدِيث فَقَالَ أما وَأَبُو عُثْمَان حَيّ فَلَا، يَعْنِي عبيد الله بن عمر). [العلل ومعرفة الرجال، رواية ابنه عبد الله، ج1 ص185]، [تهذيب الكمال ج15 ص330].


رابعاً: أن زيادة التكبير في الحديث منكرة؛ لتفرد عبد الله العمري بها، مع ضعفه، ومع تعدد رواة أحاديث سجود التلاوة في الصلاة.

وإلى هذا أشار النووي فقال: (حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِلَفْظِهِ إلَّا قَوْلَهُ كَبَّرَ، فَلَيْسَ فِي رِوَايَتِهِمَا، وَهَذَا اللَّفْظُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَإِسْنَادُهَا ضَعِيفٌ). (المجموع، له، ج4 ص58).

قلت: من أجل عبد الله العمري (المُكَبَّر)، وقد نص النووي على عدم الاحتجاج بروايته في موضع آخر فقال عنه: (هُوَ ضَعِيفٌ عند أهل العلم لا يُحتج بروايته !). (المجموع، ج2 ص142).

وقال المنذري: (في إسناده: عبد اللَّه بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة، وأخرج له مسلم مقروناً بأخيه عبيد اللَّه بن عمر). (مختصر سنن أبي داود، له، ج1 ص411).

وقال ابن التركماني (ت 750) معقباً على سكوت البيهقي عن حديث عبد الله العمري: (في سنده عبد الله بن عمر أخو عبيد الله، مُتكلمٌ فيه، ضعفه ابن المديني، وكان يحيى بن سعيد لا يحدث عنه، وقال ابن حنبل: كان يزيد في الأسانيد، وقال صالح بن محمد: لين مختلط الحديث). (الجوهر النقي ج2 ص325).

وقال الحافظ الزيلعي: (عبد اللّه بن عمر العمري فيه مقال). (نصب الراية، له، ج2 ص179).

وقال ابن الملقن: (هُوَ من رِوَايَة عبد الله بن عمر الْعمريّ وَفِيه مقَال). (خلاصة البدر المنير، له، ج1 ص168). قلت: بهذا يكون ابن الملقن قد رجع عن قوله السابق الذي قاله في أصل كتابه (البدر المنير)، حيث حَسَّنَ حديثه، والله أعلم.

وقال الحافظ ابن حجر: (فِيهِ الْعُمَرِيُّ عَبْدُ اللَّهِ الْمُكَبَّرِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظٍ آخَرَ). (التلخيص الحبير ج2 ص28، بتصرف يسير).

وقال أيضاً: في (بلوغ المرام ص161) بعدما أورد حديث عبد الله العمري الذي فيه تكبير: (سنده فيه لين).

وقال الشوكاني: (الْحَدِيثُ فِي إسْنَادِهِ الْعُمَرِيُّ عَبْدُ اللَّهِ الْمُكَبّرُ وَهُوَ ضَعِيفٌ). (نيل الأوطار ج3 ص124).

وقال الألباني: (لكن ذكر التكبير فيه منكر؛ تفرد به عبد الله بن عمر- وهو العمري المكبر- ضعيف. وهو في "الصحيحين " بدون التكبير).

ثم قال: (هذا إسناد ضعيف، رجاله ثقات؛ غير عبد الله بن عمر -وهو العمري المكبر- وهو ضعيف؛ كما في "التقريب ". وقال الذهبي في "الميزان ": " صدوق في حفظه شيء ". قلت: وقد أخطأ في هذا الحديث؛ فزاد فيه التكبير، وخالفه أخوه عبيد الله -العمري المُصَغَّر- وهو ثقة حجة؛ فلم يذكر التكبير. كذلك أخرجه الشيخان وغيرهما من طرق عنه. وكذلك رواه حماد بن خالد الخياط عن عبد الله عن نافع... به؛ لم يذكر التكبير. أخرجه أحمد (2/157). وتابعه فضيل بن سليمان عن عبد الله بن عمر... به. أخرجه ابن حبان (688). وجملة القول أنه قد اخْتُلف على عبد الله بن عمر في التكبير؛ فأثبته عنه عبد الرزاق، ونفاه حماد وفضيل، وهو الصواب، لموافقتها لرواية أخيه عبيد الله). انتهى كلام الشيخ الألباني، (تمام المنة ص268 بتصرف يسير). وانظر إن شئت (سلسلة الهدى والنور 702). و (الموسوعة الفقهية للإمام الألباني ج7 ص373).

قلت: يعني بما رواه أحمد ما رواه في مسنده (6572) ج3 ص1358 فقال: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا الْقُرْآنَ، فَإِذَا مَرَّ بِسُجُودِ الْقُرْآنِ سَجَدَ وَسَجَدْنَا مَعَهُ.


فحديث عبد الله بن عمر العمري نفسه فيه اختلاف أيضاً، فمرة ذكر فيه التكبير، ومرة أخرى لم يذكر فيه التكبير، ففي رواية حماد بن خالد الخياط القرشي لم يذكر فيه التكبير، وحماد بن خالد ثقة، قال عنه الإمام أحمد: (كان حافظاً كتبت عنه أنا ويحيى بن معين). كما في (تهذيب الكمال ج7 ص233)، و(التهذيب ج3 ص7)، وانظر إن شئت: (الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ج3 ص136)، فانظر رحمك الله الاختلاف في حديثه الذي اعتمده كثيرون !، فهذا الرد الخامس، مع التذكير بكثرة رواة أحاديث سجود التلاوة الصريحة في الصلاة جميعهم لم ينقلوا التكبير له، والله المستعان الموفق.


سادساً: على فرض صحة هذه اللفظة الزائدة، وهي قوله: (كَبَّر)، اعلم وفقني الله وإياك أن الحديث أصلاً في غير الصلاة، كما صرحت بذلك رواية مسلم الأخرى، وقد تقدم نقلها.


سابعاً: حديث أبي هريرة في التكبير في كل خفض ورفع المذكور آنفاً دليل عام، ويدل على تكبيرات الانتقال المعهودة المتكررة في كل صلاة، ولا يدل على التكبير لسجود التلاوة؛ وذلك لأن حديث أبي هريرة له قصة مذكورة في بعض رواياته، وهي أن بعض مَنْ صلى خلف أبي هريرة تلك الصلاة التي كبر فيها تكبيرات الانتقال أنكروا على أبي هريرة هذه التكبيرات واستغربوها، فرد عليهم أبو هريرة بهذا، فاستبان بذلك أنه أراد تكبيرات الانتقال المعهودة، ولم يرد التكبير لغيرها، كسجود التلاوة مثلاً.

وهذه رواية صريحة في استنكار التكبير على أبي هريرة:

عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يُكَبِّرُ فِي الصَّلَاةِ كُلَّمَا رَفَعَ وَوَضَعَ، فَقُلْنَا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا هَذَا التَّكْبِيرُ؟ قَالَ: إِنَّهَا لَصَلَاةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

رواه بهذا اللفظ: مسلم (392) ج2 ص8، ورواه بنحوه أبو يعلى الموصلي في مسنده (5992)، كلاهما من طريق الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، به، وأصله في صحيح البخاري وغيره، لكني سقت هذا الحديث لأنه أصرح من غيره في استنكار تكبيرات أبي هريرة.

وإذا نظرت إلى كلام العلماء الذين شرحوا حديث أبي هريرة وأمثاله من الأحاديث المصرحة بالتكبير في كل خفض ورفع تبين لك أن المراد بها جميعها: تكبيرات الانتقال المعهودة التي نؤديها في جميع الصلوات، وأن تكبيرات الانتقال ما كان يعرفها كثير من عامة الناس، وقد ذكروا لذلك أسباباً عدة ليس هذا موضع بسطها، لكني أردت بذلك إثبات أن أحاديث (التكبير في كل خفض ورفع) مختصة بتكبيرات الانتقال المعروفة وعددها فِي الْمَكْتُوبَاتِ الْخَمْسِ أَرْبَعٌ وَتِسْعُونَ تَكْبِيرَةً، ففي الرباعية اثنتان وَعِشْرُونَ، وَهِيَ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ، وتكبيرة القيام من التشهد الأول، وَخَمْسٌ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَفِي الصلاة الثلاثية سبع عشرة، وفي الصلاة الثنائية إِحْدَى عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً، وليس منها التكبير لسجود التلاوة، فانظر إن شئت مثلاً: (المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، للنووي ج4 ص98)، و (مجموع الفتاوى، لابن تيمية، ج22 ص582 - 594) و (فتح الباري لابن حجر ج2 ص270)، و (البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج، لشيخنا محمد بن علي آدم الإتيوبي ج9 ص199 – 200).

وقد أشار هؤلاء المذكورون إلى هذا الخلاف الحاصل في زمن أبي هريرة، كما في المصادر المذكورة آنفاً.


وجاء في بعض الروايات التصريح بأنهم (تركوا أو نسوا) تكبيرات الانتقال المذكورة، كما سيأتي، قال الحافظ ابن حجر عند شرحه لحديث البخاري الذي رواه بإسناده عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: صَلَّى مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْبَصْرَةِ فَقَالَ: «ذَكَّرَنَا هَذَا الرَّجُلُ صَلاَةً كُنَّا نُصَلِّيهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَفَعَ وَكُلَّمَا وَضَعَ»: (وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّكْبِيرَ الَّذِي ذَكَرَهُ كَانَ قَدْ تُرِكَ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَالطَّحَاوِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: ذَكَّرَنَا عَلِيٌّ صَلَاةً كُنَّا نُصَلِّيهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمَّا نَسِينَاهَا وَإِمَّا تَرَكْنَاهَا عَمْداً). (فتح الباري ج2 ص270).


قلت: وثمة دليلٌ آخر: وهو أن هذا الحديث المتفق على صحته، وغيره من الأحاديث التي تدل على معناه، لو أخذنا بها على إطلاقها لَكَبَّرنا حتى عند الرفع من الركوع !، فَتَنَبَّهْ، فهذه الأحاديث إذاً جميعها أحاديثٌ ألفاظها عامةٌ، والمراد بها شيء خاص، وهو: تكبيرات الانتقال المعهودة فقط، يزيد ذلك وضوحاً الروايات الأخرى في مشروعية قول: (سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) حين الرفع من الركوع، كقول أبي هُرَيْرَةَ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ ثُمَّ يَقُولُ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنَ الرُّكُوعِ). الحديث، متفق على صحته.


ولذلك يقول الإمام ابن خزيمة في صحيحه بعد إيراده لحديث ابن عمر وابن عباس في أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: اللهُ أَكْبَرُ كُلَّمَا رَفَعَ وَوَضَعَ:

(بَابُ ذِكْرِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ الَّتِي ذَكَرْتُهَا لَفْظٌ عَامٌّ مُرَادُهُ خَاصٌّ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا كَانَ يُكَبِّرُ فِي بَعْضِ الرَّفْعِ لَا فِي كُلِّهَا!، لَمْ يُكَبِّرْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ رَفْعِهِ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ رَفْعٍ خَلَا عِنْدَ رَفْعِهِ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ)، ثم قال: (وَلَوْ أَبَحْنَا لِلْمُصَلِّي أَنْ يُكَبِّرَ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُكَبِّرَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ عِنْدَ الْإِهْوَاءِ إِلَى السُّجُودِ لَكَانَ عَدَدُ التَّكْبِيرِ فِي أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ سِتَّةً وَعِشْرِينَ تَكْبِيرَةً لَا اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ تَكْبِيرَةً، وَفِي خَبَرِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا بَانَ وَثَبَتَ أَنَّ عَدَدَ التَّكْبِيرِ فِي أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ تَكْبِيرَةً لَا أَكْثَرَ مِنْهَا).
صحيح ابن خزيمة ج1 ص614


ولذلك أيضاً يقول ابن حبان عند إيراده حديث أبي هريرة المذكور أعلاه: (ذِكْرُ خَبَرٍ أَوْهَمَ عَالَمَاً مِنَ النَّاسِ أَنَّ عَلَى الْمُصَلِّي التَّكْبِيرَ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ مِنْ صَلَاتِهِ !).
صحيح ابن حبان ج5 ص62


وقال ابن حجر: (قَوْلُهُ "كُلَّمَا رَفَعَ وَكُلَّمَا وَضَعَ" هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الِانْتِقَالَاتِ فِي الصَّلَاةِ لَكِنْ خُصَّ مِنْهُ الرَّفْعُ مِنَ الرُّكُوعِ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُ شُرِعَ فِيهِ التَّحْمِيدُ). (فتح الباري ج2 ص270).


قلت: فهذا اللفظ العام، وهو قولهم (يكبر في كل خفض ورفع في الصلاة): قد أوهم بعض الناس فأدخلوا فيه حتى سجود التلاوة !، فالله وحده المستعان الموفق.


وقد سُئِلَ الشيخ الألباني عن حديث: (كان يكبر في كل خفض ورفع)، هل يحسن الاستدلال به على جواز التكبير لآية السجدة في الصلاة فقط؟.

فقال: (لا يحسن الاستدلال به للتكبير في سجود التلاوة، لأن المتبادر أن المقصود الخفض والرفع المعهود في كل الصلوات والغالب فيها أنه ليست فيها هذه التلاوة). نقلته من تفريغ (سلسلة الهدى والنور، 57/14).

وسئل أيضاً: صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في كل خفض ورفع، فهل يُستدل بهذا الحديث على التكبير عند سجود التلاوة في الصلاة؟.

فأجاب: (لا؛ لأنه يقصد في كل خفض ورفع في الصلوات المعتادة، وليس من العادة فيها تلاوة آية سجدة إلا نادراً؛ فالنادر لا حكم له؛ ولذلك وقد جاء في أحاديث عديدة أن الرسول عليه السلام كان يقرأ آية سجدة في الصلاة وكان يسجد لها؛ ولم يأت في حديث ما، ولو ضعيف السند أن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما سجد سجدة التلاوة في الصلاة كبر وسجد؛ فلا يدخل تكبير لسجدة التلاوة في الصلاة ضمن هذا الحديث الصحيح.

سائل آخر: ولا في حديث ضعيف!؟.

الشيخ: لكن عفا الله عني وعنك، شغلت عنا وشغلت أيضاً معك غيرك، أنت ما سمعت قلت: في الصلاة، ولو في حديث ضعيف في الصلاة). انتهى كلامه من تفريغ (سلسلة الهدى والنور، 190/12).




فائدة: ممن قال بهذا القول: 

أبو حنيفة، وأبو يوسف -في إحدى الروايات عنهما-، قال الكاساني الحنفي (ت 587): (وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُكَبِّرُ عِنْدَ الِانْحِطَاطِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ). (بدائع الصنائع، له ج2 ص192)، (بذل المجهود لخليل السهارنفوري ج6 ص82).

وهو وجهٌ عند الشافعية، قال النووي: (وَفِيهِ وَجْهٌ لأبي علي ابن أَبِي هُرَيْرَةَ حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ التَّكْبِيرُ لِلْهَوِيِّ وَلَا لِلرَّفْعِ). (المجموع ج4 ص63).

قال النووي معلقاً: (وهو شاذ ضعيف). (المصدر السابق).

 قلت: لا أدري كيف يكون ضعيفاً شاذاً ولا دليل في المسألة صحيح يعول عليه، وقد تقدم النقل عن النووي نفسه أنه لا يحتج بحديث عبد الله العمري !.







بيان حال بعض الآثار التي ألفاظها عامة محتملة لما كان داخل الصلاة وخارجها:


قال ابن أبي شيبة: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَأَبُو الْأَشْهَبِ عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّهُمَا قَالَا: "إِذَا قَرَأَ الرَّجُلُ السَّجْدَةَ، فَلْيُكَبِّرْ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ وَإِذَا سَجَدَ". 


قلت: رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (4208) ج3 ص382.

وهذا الأثر غير صريح أنه في الصلاة، هذا أولاً، وثانياً: هو ضعيف.

فأما أثر إبراهيم ففيه علتان:

الأولى: أن هشيماً لم يسمع من مغيرة بن مِقْسَم الضَّبِّيّ.

الثانية: أن مُغيرَة بن مقسم الضَّبِّيّ ضعيف الحديث عن إبراهيم وحده.

قال عبد الله بن الإمام أحمد حاكياً عن أبيه: (وسمعته وَذكر مُغيرَة بن مقسم الضَّبِّيّ فَقَال: كَانَ صَاحب السّنة ذكياً حَافِظاً وَعَامة حَدِيثه عَن إِبْرَاهِيم مَدْخُول، عَامَّة مَا روى عَن إِبْرَاهِيم إِنَّمَا سَمعه من حَمَّاد وَمن يزِيد بن الْوَلِيد والْحَارث العكلي وَعَن عُبَيْدَة وَعَن غَيره، وَجعل يضعف حَدِيث الْمُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم وَحده). [العلل لأحمد ج1 ص207 رواية ابنه عبد الله].


وأما أثر الحسن ففيه: أن جَعفر بن حَيَّان، السعدي أبو الأشهب العُطاردي، البصري، ثقة، لكني لم أجد من ذكر أنه من شيوخ ابن أبي شيبة، علاوة على أنه توفي وابن أبي شيبة لم يبلغ السابعة أو الثامنة من عمره. [التاريخ الكبير ج2 ص189]، [الجرح والتعديل ج2 ص476].


تنبيه: قال الألباني: "وروي عن أبي الأشهب والحسن أنهما قالا: " إذا قرأ الرجل السجدة فليكبر إذا رفع رأسه وإذا سجد ". ورجاله ثقات لكن فيه هشيم عن مغيرة وهما مدلسان !). انتهى كلامه. (تمام المنة في التعليق على فقه السنة ص268).


وقال ابن أبي شيبة: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ عَامِرٍ قَالَ: (إِذَا قَرَأْتَ السَّجْدَةَ فَكَبِّرْ). رواه في مصنفه (4212).

قلت: هذا الأثر عن عامر الشعبي، ضعيف ففي إسناده الراوي عنه وهو: جابر بن يَزيد الجُعْفي الكُوفي، ضعيف رافضي. (التاريخ الكبير ج2 ص210)، (الجرح والتعديل ج2 ص497)، (ميزان الاعتدال ج1 ص379)، (التقريب ج1 ص154).







المسألة الأخرى: سجود التلاوة خارج الصلاة، وقد روي في صفته عدة صفات:

أولاً: ثبت عن بعض التابعين أنهم كانوا يكبرون لسجود التلاوة خارج الصلاة تكبيرة واحدة، ويسلمون بعده:

قال عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَأَبِي قِلَابَةَ كَانَا إِذَا قَرَءَا بِالسَّجْدَةِ يُكَبِّرَانِ إِذَا سَجَدَا وَيُسَلِّمَانِ إِذَا فَرَغَا". (مصنف عبد الرزاق (5930) ج3 ص349).

إسناده صحيح، قَتَادَةُ بنُ دِعَامَة، أَبُو الخَطَّابِ السَّدُوْسِيُّ، البَصْرِيُّ، الضَّرِيْرُ، رَوَى لَهُ الجَمَاعَة. [الجرح والتعديل ج7 ص133]، [السير ج5 ص269]، [التقريب ج2 ص26]، [مسائل حرب، ج2 ص1223]. 
ومعمر بن راشد الأزدي، مولاهم، أبو عروة البصري نزيل اليمن، ثقة ثبت فاضل، روى له الجماعة. قال الإمام أحمد: ليس تضم معمراً إلى أحد إلا وجدته فوقه. قال عبد الرزاق: كتبت عن معمر عشرة آلاف حديث. [التاريخ الكبير ج7 ص378]، [التقريب ج2 ص202]، [تذكرة الحفاظ ج1 ص190]، [الكاشف ج2 ص282].

تنبيه: هذه الرواية تنفي القول ببدعية التسليم بعد سجود التلاوة، وممن قال ببدعية التسليم بعد سجود التلاوة شيخ الإسلام ابن تيمية، كما في مجموع فتاويه ج23 ص170، و (سجود التلاوة معانيه وأحكامه ص88، بتحقيق فواز الزمرلي).


ثانياً: ورد عن بعض التابعين أنهم كانوا يكبرون عند الهَوِيِّ لسجود التلاوة تكبيرة واحدة خارج الصلاة:

قال ابن أبي شيبة:

حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ وَابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُمَا قَالَا: إِذَا قَرَأَ الرَّجُلُ السَّجْدَةَ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ ". (مصنف ابن أبي شيبة 4209 ج3 ص383).
إسناده صحيح، ابْنُ عُلَيَّةَ هو: إِسماعيل بن إِبراهيم بن مِقسَم، أَبو بِشر الأسدي، وعُلية اسم أمه، ثقة. [الجرح والتعديل ج2 ص153]، [الكاشف ج1 ص243]، [التقريب ج1 ص90].
خالد بن مهران البصري أبو المنازل الحذاء، ثقة. [التاريخ الكبير ج3 ص173]، [الجرح والتعديل ج2 ص153]، [الكاشف ج1 ص369]، [التقريب ج1 ص264].

تنبيه: في رواية عبد الرزاق السابقة عنهما (أي: عَنْ أَبِي قِلَابَةَ وَابْنِ سِيرِينَ) فيها زيادة التسليم، فدل على أن ذلك في غير الصلاة، والله أعلم.

وقال ابن أبي شيبة أيضاً: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: كَانَ أَبِي إِذَا قَرَأَ السَّجْدَةَ قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ سَجَدَ ". رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (4210).
إسناده صحيح، عَبد الله بن عَون البَصري، ثقة ثبت. [التاريخ الكبير ج5 ص163]، [الجرح والتعديل ج5 ص130]، [التقريب ج1 ص520].
عَبد الله بن مُسلم بن يَسار، البَصري، ثقة. [التاريخ الكبير ج5 ص191]، [الجرح والتعديل ج5 ص165]، [ثقات ابن حبان ج5 ص60، ج7 ص13]، [الثقات لابن قطلوبغا ج6 ص136].
تنبيه: قد يأتي أحد ويستدل بهذا الأثر على التكبير لسجود التلاوة في الصلاة، بحجة أن لفظه عام، لكن قبل أن يحتج به على ذلك ينبغي أن يتذكر أن الأثر في غير الصلاة، ويدل على ذلك السياق، حيث أن ابن أبي شيبة ذكره في سياق ما رواه من الآثار خارج الصلاة، وأن ينظر إلى صنيع البيهقي أيضاً، ويزيد ذلك وضوحاً قول البيهقي بعدما رواه: ((وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، وَأَبِي الْأَحْوَصِ أَنَّهُمَا سَلَّمَا فِي السَّجْدَةِ تَسْلِيمَةً عَنِ الْيَمِينِ. وَرَفَعَهُ بَعْضُهُمْ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ. وَيُذْكَرُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ سَجَدَ وَلَمْ يُسَلِّمَ. وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي السَّجْدَةِ تَسْلِيمٌ)). وهذا كلام البيهقي كاملا:
قال البيهقي في سننه (الكبرى 3843،  ج2 ص325):

((أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ، أَنْبَأَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ، ثَنَا سَعْدَانُ بْنُ نَصْرٍ، ثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، ثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُسْلِمٍ - يَعْنِي ابْنَ يَسَارٍ - ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: إِذَا قَرَأَ الرَّجُلُ السَّجْدَةَ فَلَا يَسْجُدْ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى الْآيَةِ كُلِّهَا، فَإِذَا أَتَى عَلَيْهَا رَفَعَ يَدَيْهِ وَكَبَّرَ وَسَجَدَ.

قَالَ: وَسَمِعْتُ مُحَمَّدًا - يَعْنِي ابْنَ سِيرِينَ - يَقُولُ مِثْلَ هَذَا.

وَيُذْكَرُ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا قَرَأْتَ سَجْدَةً فَكَبِّرْ وَاسْجُدْ، وَإِذَا رَفَعْتَ فَكَبِّرْ. وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، وَأَبِي الْأَحْوَصِ أَنَّهُمَا سَلَّمَا فِي السَّجْدَةِ تَسْلِيمَةً عَنِ الْيَمِينِ. وَرَفَعَهُ بَعْضُهُمْ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ. وَيُذْكَرُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ سَجَدَ وَلَمْ يُسَلِّمَ. وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي السَّجْدَةِ تَسْلِيمٌ)). انتهى كلام البيهقي.

قال الألباني: (وأخرج (ابن أبي شيبة) عن أبي قلابة وابن سيرين أنهما قالا: " إذا قرأ الرجل السجدة في غير الصلاة قال: الله أكبر ". قلت: وإسناده صحيح ورواه عبد الرزاق في " المصنف " ( 3 / 349 / 5930 ) بإسناد آخر صحيح عنهما نحوه، ثم روى التكبير عند سجود التلاوة هو والبيهقي عن مسلم بن يسار، وإسناده صحيح). (تمام المنة في التعليق على فقه السنة ص268).



بيان ضعف ما نُسِبَ إلى ابن مسعود رضي الله عنه:

قال الحافظ الزيلعي: "قَوْلُهُ (يعني الرافعي): وَمَنْ أَرَادَ السُّجُودَ، كَبَّرَ، وَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ، وَسَجَدَ، ثُمَّ كَبَّرَ، وَرَفَعَ رَأْسَهُ، وَلَا تَشَهُّدَ عَلَيْهِ، وَلَا سَلَامَ، هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، قلت: غريب". انتهى كلامه (نصب الراية، له، ج2 ص179).

وقال سيد سابق، في كتابه (فقه السنة): "وقال عبد الله بن مسعود: إذا قرأت سجدة فكبر واسجد وإذا رفعت رأسك فكبر".

قال الألباني معلقاً: "كذا ذكره دون أن يعزوه لأحد، وما وجدت من عزاه لابن مسعود، وإنما علقه البيهقي ( 2 / 325 ) لغيره فقال: ويذكر عن الربيع بن صبيح عن الحسن البصري أنه قال: فذكره. والربيع هذا قال الحافظ: " صدوق سيئ الحفظ ". وقد وجدت له أصلاً عن ابن مسعود من فعله أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " ( 2 / 2 ) من طريق عطاء بن السائب قال: كنا نقرأ على أبي عبد الرحمن السلمي ونحن نمشي فإذا مر بالسجدة كبر وأومأ وسلم وزعم أن ابن مسعود كان يصنع ذلك. لكن عطاء بن السائب كان اختلط". (تمام المنة في التعليق على فقه السنة ص268).

قلت: ثم قال الشيخ الألباني رحمه الله بأنه قد ثبت عن ابن مسعود أنه كان يكبر لسجود التلاوة في الصلاة !!، كما في (سلسلة الهدى والنور246)، وكلامه هذا سمعته مراراً وهو مرفوع على (الإنترنت)، وكما في (الموسوعة الفقهية للإمام الألباني ج7 ص371 - 373)، ولم أجد هذه الرواية التي ذكرها لا عن ابن مسعود ولا عن غيره في سجود التلاوة داخل الصلاة، وغاية ما هنالك أن البيهقي قال: (ويُذكَرُ عن الرَّبيعِ بنِ صَبِيحِ عن الحسنِ البَصرِىِّ أنَّه قال: إذا قَرأتَ سَجدَةً فكَبِّرْ واسجُدْ، وإِذا رَفَعتَ فكَبِّرْ.
ويُذكَرُ عن أبى عبدِ الرحمنِ السُّلَمِىِّ وأَبِى الأحوَصِ أنَّهُما سَلَّما في السَّجدَةِ تَسليمَةً عن اليَمينِ. ورَفَعَه بَعضُهُم عن أبى عبدِ الرحمنِ إلى عبدِ اللَّهِ بنِ مَسعودٍ). انتهى كلامه وقد تقدم نقله، وهذا لا تقوم به حجة؛ لأنه علقه فقال: (ويُذكر)، علاوةً على أنه في غير الصلاة، وقد روي عن ابن مسعود أنه كبر لسجود التلاوة خارج الصلاة وهو يمشي يومئ للسجود إيماءً، وسيأتي بيان ضعفه، ويُحتمل أنه أراد بذلك ما رواه بإسناد صحيح الطيالسي في مسنده (277، ج1 ص223)، وأحمد في مسنده (3734، ج2 ص852)، والترمذي (253، ج1 ص293)، والنسائي (1141، ج1 ص245)، وغيرهم، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِي، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ ، عَنِ الْأَسْوَدِ وَعَلْقَمَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ : (أَنَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ وَقِيَامٍ وَقُعُودٍ ، وَيُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ ، حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدَّيْهِ - أَوْ خَدِّهِ - وَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَفْعَلَانِ ذَلِكَ). ولكن هذا الاحتمال بعيد لأنه قد تقدم أن هذا الحديث وأمثاله خاص بتكبيرات الانتقال المعهودة.



ثالثاً: جاء في صفته أيضاً: التكبير والإيماء للسجود في حالة المشي بعد قراءة آية السجدة:

قال ابن أبي شيبة: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ السَّجْدَةَ وَهُوَ يَمْشِي، فَيُكَبِّرُ وَيُومِئُ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ، وَيُكَبِّرُ إِذَا رَفَعَ. (مصنف ابن أبي شيبة، كتاب الصلاة، من قَالَ إِذا قرئت السجدة فكبر واسجد 4211)



وقال أيضاً: حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ: " كُنَّا نَقْرَأُ عَلَى أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَنَحْنُ نَمْشِي، فَإِذَا مَرَّ بِالسَّجْدَةِ كَبَّرَ وَأَوْمَأَ وَسَلَّمَ، وَزَعَمَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ ".

ترجم له فقال: (إِذَا قَرَأَ الرَّجُلُ السَّجْدَةَ وَهُوَ يَمْشِي، مَا يَصْنَعُ). (مصنف ابن أبي شيبة 4213).



ورواه الطبراني بلفظ آخر من طريق عَبْد السَّلَامِ بْن حَرْبٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، قَالَ: كُنَّا نَقْرَأُ عَلَى أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ وَهُوَ يَمْشِي، فَإِذَا مَرَرْنَا بِالسَّجْدَةِ كَبَّرَ وَكَبَّرْنَا، وَسَجَدَ وَسَجَدْنَا إِيمَاءً، يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَنَقُولُ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ " وَزَعَمَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَبْدَ اللهِ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِهِمْ ". (المعجم الكبير 8742).


وفي هذه الأسانيد كلها: عطاء بن السائب، إمام اختلط بأخرة. قال أبو حاتم: حَديث البَصريين الذين يحدثون عَنه تخاليط كثيرة، لأَنه قدم عليهم في آخر عمره، وما رَوَى عَنه ابن فُضيل ففيه غلط واضطراب، رفع أَشياء كان يرويه عَن التابعين فرفعه إِلى الصحابة. (التاريخ الكبير للبخاري ج6 ص465)، (الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ج6 ص333)، (ميزان الاعتدال ج3 ص70)، (التقريب ج1 ص675).




رابعاً: جاء الإيماء من غير تكبير في حالة المشي:

روى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ السَّجْدَةَ وَهُوَ يَمْشِي فَيُومِئُ إِيمَاءً". (مصنف عبد الرزاق 5928).
إسناده صحيح إلى علقمة بن الأسود، وإبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي أبو عمران الكوفي الفقيه، ثقة، روى له الجماعة. [التاريخ الكبير ج1 ص334]، [التقريب ج1 ص69]، [الكاشف ج1 ص227].
ومَنْصُوْرُ بنُ المُعْتَمِرِ أَبُو عَتَّابٍ السُّلَمِيُّ، الكُوْفِيُّ، رَوَى لَهُ الجَمَاعَة، وَهُوَ أَحَدُ الأَعْلاَمِ الأَثْبَاتِ، حَتَّى قِيْلَ: أَصَحُّ الأَسَانِيْدِ مُطْلَقاً: سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُوْرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيْمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ. نَقَلْتُهُ لِبَيَانِ قُوَّتِهِ لا أَكْثَر. [التاريخ الكبير ج7 ص346]، [السير ج5 ص402]، [التقريب ج2 ص215، والتهذيب ج10 ص277].
وإسرائيل هو: ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي الهمداني أبو يوسف الكوفي، ثقة. [تهذيب الكمال ج2 ص514]، [التقريب ج1 ص88]، [الكاشف ج1 ص241].






تنبيه: مما حركني لكتابة هذا البحث المفصل: المناقشات مِنَ الإخوة، ومِنْ عابري السبيل الذين يصلون خلفي في مسجدي مِمَّنْ لا أعرفهم في مسألة التكبير لسجود تلاوة القرآن في الصلاة، حيث أني لا أكبر لسجود التلاوة في الصلاة؛ لأني أعتقد أنه غير مشروع لِما تقدم بيانه، والذي يأتي بدليل صحيح صريح يخالف ذلك فواجب علي الرجوع للدليل والحق.

هذا مبلغي من العلم في هذه المسألة، فإن كان صواباً فمن الله وحده، وإن كان خطأً فمن نفسي والشيطان، والله يغفر لي ولجميع المسلمين برحمته ومنه وكرمه، وهدانا لِمَا اختُلف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وإنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم على نبينا ورسولنا محمد وآله.




وكتب 
عبد الله بن سعيد بن هليل العمر الشمري
16 جمادى الأولى 1441

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بيان أن الصحابة كانوا يقولون في تشهد الصلاة (السلام عليك أيها النبي) بصيغة المُخَاطَبة، في حياة النبي ﷺ، وبيان أنهم كانوا يقولون (السلام على النبي) بصيغة: الْغَيْبَةِ، بعد وفاة النبي ﷺ

حَدِيْثُ أَنَسٍ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ الثُّفْلُ.

خطبة الجمعة (فضل العلم وأهله وفضل النفقة على أهله والحث على طلبه)