بيان أن صلاة الليل لا حَدَّ لعدد ركعاتها، وبيان مشروعية الزيادة في قيام الليل بعد الوتر لمن رغب التنفل


بيان أن صلاة الليل لا حَدَّ لعدد ركعاتها، وبيان مشروعية الزيادة في قيام الليل بعد الوتر لمن رغب.

أولا:
هذا بيان الأصح الأرجح في عدد ركعات صلاة الليل، وأن قيام الليل لا حد له يُلتزم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحدد عدد ركعات قيام الليل، كما سيأتي بيانه.


ومَنْ جمع النصوص كلها تيقن ذلك.

ومن الأدلة ما يلي:

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ قَالَ: قَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ صَلَاةُ اللَّيْلِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خِفْتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ ".
رواه التسعة واللفظ لمسلم
موطأ مالك(,319,)
مسند أحمد (4492,4559,4571,4848,4987,5032,5085,5096,5103,5159,5217,5341,5399,5454,5470,5483,5793,5937,6008,6169,6170,6176,6258,6355,6439)
صحيح مسلم (749)
صحيح البخاري (472,473,993,995,1137)
سنن الدارمي (1499,1500,1625)
سنن أبي داود (1295,1326,1421)
سنن النسائي (1666,1667,1668,1669,1670,1671,1672,1673,1691,1693,1694)
سنن ابن ماجه (1320)
سنن الترمذي (437).

وقد ترجم لهذا الحديث بقوله: (باب اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لأَنْ يصلي من الليل مثنى مثنى) كما في (قيام الليل) لابن نصر المروزي. 
والمعنى واضح حيث أنه أجاب السائل بهذا الجواب الذي فيه اختيار منه وفيه توسعة.
وقد أطال النفس ابن نصر في جمع ألفاظ وطرق هذا الحديث، ثم قال رحمه الله: (فالذي نختار لمن صلى بالليل أن يصلي مثنى ، مثنى ، يسلم بين كل ركعتين ، ويجعل آخر صلاته ركعة لهذه الأحاديث ، وقوله هذا عندنا اختيار لا إيجاب ، لأنه قد روي أنه صلى بالليل خمساً لم يسلم إلا في آخرهن، فاستدللنا بذلك على أن قوله : « الصلاة مثنى مثنى » ، إنما هو اختيار ومن أحب أن يصلي ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو تسعا ، لا يسلم إلا في آخرهن فذلك له مباح ، والاختيار أن يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة).


وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، فَقَالَ: " مَا هَذَا الْحَبْلُ ؟ " قَالُوا: هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ، فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا، حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ ".
رواه الجماعة إلا أبا داود والترمذي.
مسند أحمد(11986).
صحيح البخاري | بَابُ التَّهَجُّدِ بِاللَّيْلِ | بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّشْدِيدِ فِي الْعِبَادَةِ. ( 1150)
صحيح مسلم(784)
سنن النسائي(1643)
سنن ابن ماجه(1371)

وأما ما جاء من أنه 
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يزيد على إحدى عشرة، فهو محجوج بتعدد الروايات في ذلك، وأنه صح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر من ذلك:
منها حديث ابن عباس، وحديث زيد بن خالد، وحديث جابر بن عبد الله، رضي الله عنهم، وفيها أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى ثلاث عشرة ركعة،  

ومحجوج بحديث أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْطِرُ مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لَا يَصُومَ مِنْهُ ، وَيَصُومُ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لَا يُفْطِرَ مِنْهُ شَيْئًا ، وَكَانَ لَا تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلَّا رَأَيْتَهُ ، وَلَا نَائِمًا إِلَّا رَأَيْتَهُ ). 
رواه البخاري ( أبواب التهجد، بَابُ قِيَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّيْلِ مِنْ نَوْمِهِ وَمَا نُسِخَ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ (1141) وفي موضع آخر في كتاب الصوم برقم: (1982).

ومحجوج بما رواه أحمد (27190) والنسائي (1627)، وفي (الكبرى 1326) أيضا، وابن أبي الدنيا ( ح 400، باب جامع من التهجد وقيام الليل)، وابن نصر في (قيام الليل، 128)، وابن حبان في صحيحه (2639) والطبراني في (الكبير 645) جميعهم من طريق ابْن جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَخْبَرَنِي يَعْلَى بْنُ مَمْلَكٍ أَنَّهُ سَأَلَ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّيْلِ، قَالَتْ: (كَانَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ ، ثُمَّ يُسَبِّحُ ، ثُمَّ يُصَلِّي بَعْدَهَا مَا شَاءَ اللهُ مِنَ اللَّيْلِ . ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَرْقُدُ مِثْلَ مَا صَلَّى ، ثُمَّ يَسْتَيْقِظُ مِنْ نَوْمَتِهِ تِلْكَ فَيُصَلِّي مِثْلَ مَا نَامَ. وَصَلَاتُهُ الْآخِرَةُ تَكُونُ إِلَى الصُّبْحِ). 
إلا النسائي وابن أبي الدنيا، فقد قالا: (عن ابن جريج، عن أبيه، أخبرني ابن أبي مليكة) به. فزادا: (عن أبيه).

ومحجوج بما روى مسلم عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ : كَانَ يُصَلِّي ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً؛ يُصَلِّي ثَمَانَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ يُوتِرُ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ، فَرَكَعَ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءِ وَالْإِقَامَةِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ.
صحيح مسلم: كِتَابٌ : الْمَسَاجِدُ وَمَوَاضِعُ الصَّلَاةِ | بَابٌ : صَلَاةُ اللَّيْلِ
الجزء رقم :2، الصفحة رقم:166.
737 ( 123 ، 126 ).
قال النووي: (قُلْتُ الصَّوَابُ أَنَّ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ فَعَلَهُمَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْوِتْرِ جَالِسًا لِبَيَانِ جَوَازِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْوِتْرِ، وَبَيَانِ جَوَازِ النَّفْلِ جَالِسًا). إلى أن قال: (وَهَذَا الْجَوَابُ هُوَ الصَّوَابُ وَأَمَّا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْقَاضِي عِيَاضٌ مِنْ تَرْجِيحِ الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ وَرَدِّ رِوَايَةِ الرَّكْعَتَيْنِ جَالِسًا فَلَيْسَ بِصَوَابٍ لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ إِذَا صَحَّتْ وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا تَعَيَّنَ وَقَدْ جَمَعْنَا بَيْنَهَا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ). (شرح صحيح مسلم ج6 ص21).

ومحجوج بما روى مالك (395) والبخاري (1170)، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ، ثُمَّ يُصَلِّي إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالصُّبْحِ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ). فهذا الحديث فيه تصريح بالزيادة على إحدى عشرة ركعة!.
وقد أوله الحافظ ابن حجر فقال بأنه: (يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَضَافَتْ إِلَى صَلَاةِ اللَّيْلِ سُنَّةَ الْعِشَاءِ لِكَوْنِهِ كَانَ يُصَلِّيهَا فِي بَيْتِهِ أَوْ مَا كَانَ يَفْتَتِحُ بِهِ صَلَاةَ اللَّيْلِ فَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ عَنْهَا أَنَّهُ كَانَ يَفْتَتِحُهَا بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ وَهَذَا أَرْجَحُ فِي نَظَرِي لِأَنَّ رِوَايَةَ أَبِي سَلَمَةَ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى الْحَصْرِ فِي إِحْدَى عَشْرَةَ جَاءَ فِي صِفَتِهَا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ يُصَلِّي أَرْبَعًا ثُمَّ أَرْبَعًا ثُمَّ ثَلَاثًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَتَعَرَّضْ لِلرَّكْعَتَيْنِ الْخَفِيفَتَيْنِ وَتَعَرَّضَتْ لَهُمَا فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ وَالزِّيَادَةُ مِنَ الْحَافِظِ مَقْبُولَةٌ وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحْضِرَ هُنَا مَا تَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الْوِتْرِ مِنْ ذِكْرِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ وَالِاخْتِلَافِ هَلْ هُمَا الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الْفَجْرِ أَوْ صَلَاةٌ مُفْرَدَةٌ بَعْدَ الْوِتْرِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَيْسٍ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ كَانَ يُوتِرُ بِأَرْبَعٍ وَثَلَاثٍ وَسِتٍّ وَثَلَاثٍ وَثَمَانٍ وَثَلَاثٍ وَعَشْرٍ وَثَلَاثٍ وَلَمْ يَكُنْ يُوتِرُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَلَا أَنْقَصَ مِنْ سَبْعٍ وَهَذَا أَصَحُّ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَبِهِ يُجْمَعُ بَيْنَ مَا اخْتَلَفَ عَنْ عَائِشَةَ مِنْ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَشْكَلَتْ رِوَايَاتُ عَائِشَةَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ حَتَّى نَسَبَ بَعْضُهُمْ حَدِيثَهَا إِلَى الِاضْطِرَابِ وَهَذَا إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ كَانَ الرَّاوِي عَنْهَا وَاحِدًا أَوْ أَخْبَرَتْ عَنْ وَقْتٍ وَاحِدٍ وَالصَّوَابُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ ذَكَرَتْهُ مِنْ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَوْقَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَأَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ بِحَسَبِ النَّشَاطِ وَبَيَانِ الْجَوَازِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ). (فتح الباري ج3 ص21).
ونقل هذا التأويل الشيخ الألباني رحمه الله، مقراً له، كما في كتابه (صلاة التراويح)، وذلك لأن الشيخ انتصر انتصارا عجيباً لمن حدد قيام الليل بإحدى عشرة ركعة، متشبثاً بحديث عائشة الذي في الصحيحين، أنه صلى الله عليه وسلم لم يزد على إحدى عشرة ركعة. وقال: ( تبين لنا مما سق أن عدد ركعات قيام اليل إنما هو إحدى عشرة ركعة بالنص الصحيح من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا تأملنا فيه يظهر لنا بوضوح أنه صلى الله عليه وسلم استمر على هذا العدد طيلة حياته لا يزيد عليه سواء ذلك في رمضان أو في غيره فإذا استحضرنا في أذهاننا أن السنن الرواتب وغيرها كصلاة الاستسقاء والكسوف التزم النبي صلى الله عليه وسلم أيضا فيها جميعا عددا معينا من الركعات وكان هذا الالتزام دليلا مسلما عند العلماء على انه لا يجوز الزيادة عليها فكذلك صلاة التراويح لا يجوز الزيادة فيها على العدد المسنون لاشتراكها مع الصلوات المذكورات في التزامه صلى الله عليه وسلم عددا معينا فيها لا يزيد عليه فمن ادعى الفرق فعليه الدليل ودون ذلك خرط القتاد!!، وليست صلاة التراويح من النوافل المطلقة حتى يكون لمصلي الخيار في أن يصليها بأي عدد شاء بل هي سنة مؤكدة تشبه الفرائض من حيث أنها تشرع مع الجماعة كما قالت الشافعية فهي من هذه الحيثية أولى بأن لا يزاد عليها من السنن الرواتب ولهذا منعوا مَنْ جمع أربع ركعات من التراويح في تسليمة واحدة ظنا منهم أنهم لم ترد واحتجوا ( بأن التراويح أشبهت الفرض بطلب الجماعة فلا تغير عما ورد فيها ) فتأمل كيف منعوا من وصل ركعتين بركعتين كل منهما وارد لأن في الوصل - عندهم - تغييرا لما ورد فيها من الفصل!، أفلا يحق لنا حينئذ أن نمنع بهذه الحجة ذاتها من زيادة عشر ركعات لا أصل لها في السنة الصحيحة البتة ؟! اللهم بلى بل هذا بالمعنى أولى وأحرى فهل من مدكر ؟!!
على أنه لو اعتبرنا صلاة التراويح نفلا مطلقا لم يحدده الشارع بعدد معين لم يجز لنا أن نلتزم نحن فيها عددا لا نجاوزه لما ثبت في الأصول : أنه لا يسوغ التزام صفة لم ترد عنه صلى الله عليه وسلم في عبادة من العبادات). انتهى كلامه علينا وعليه رحمة الله، وكل يؤخذ من قوله ويُرد إلا النبي صلى الله عليه وسلم.


قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
((وَقَالَ طَائِفَةٌ: قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا غَيْرِهِ عَلَى ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً}
وَاضْطَرَبَ قَوْمٌ فِي هَذَا الْأَصْلِ لما ظَنُّوهُ مِنْ مُعَارَضَةِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِمَا ثَبَتَ مِنْ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَعَمَلِ الْمُسْلِمِينَ.
وَالصَّوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ جَمِيعَهُ حَسَنٌ كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنَّهُ لَا يتوقت فِي قِيَامِ رَمَضَانَ عَدَدٌ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوَقِّتْ فِيهَا عَدَدًا

...))

مجموع الفتاوى ج23 ص113.

قلت: رَجَّح فشفى واشتفى رحمه الله، وقد حصل في زماننا نفس هذا الاضطراب القديم الذي أخبر عنه شيخ الإسلام. 



وقال الشيخ ابن باز:
((وإن أوتر بثلاث وعشرين كما فعل ذلك عمر والصحابة - رضي الله عنهم - في بعض الليالي من رمضان فلا بأس؛ فالأمر واسع، وثبت عن عمر والصحابة - رضي الله عنهم - أنهم أوتروا بإحدى عشرة كما في حديث عائشة.
فقد ثبت عن عمر هذا وهذا، ثبت عنه - رضي الله عنه - أنه أمر من عيَّن من الصحابة أن يصلي إحدى عشرة، وثبت عنهم أنهم صلوا بأمره ثلاثا وعشرين.
وهذا يدل على التوسعة في ذلك، وأن الأمر عند الصحابة واسع كما دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: «صلاة الليل مثنى مثنى» ...))

مجموع فتاوى ابن باز ج11 ص323.


ثانيا:
بيان مشروعية الزيادة في قيام الليل بعد الوتر لمن رغب التنفل:

رجح أَبُو بَكْرٍ ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ- بعد تفصيله في مسألة (نقض الوتر) وكيف يفعل من أراد الصلاة بعدما أوتر، فقَالَ: (وَلَا أَعْلَمُ اخْتِلَافًا فِي أَنَّ رَجُلًا بَعْدَ أَنْ أَدَّى صَلَاةَ فَرْضٍ كَمَا فُرِضَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَرَادَ بَعْدَ أَنْ فَرَغَ مِنْهَا نَقْضَهَا أَنْ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَيْهِ، فَحُكْمُ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ مِنَ الْوِتْرِ حُكْمُ مَا لَا نَعْلَمُهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، وَكَذَلِكَ الْحَجُّ، وَالصَّوْمُ، وَالْعُمْرَةُ، وَالِاعْتِكَافُ، لَا سَبِيلَ إِلَى نَقْضِ شَيْءٍ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ يُكْمِلَهَا، رُوِّينَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أَنَامُ عَلَى وِتْرٍ، فَإِنِ اسْتَيْقَظْتُ صَلَّيْتُ شَفْعًا حَتَّى الصَّبَّاحِ، وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ خِلَافَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، رُوِّينَا ذَلِكَ عَنْ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَعَائِشَةَ، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ فَلَعَلَّهُ قَدْ فَعَلَ الْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ لِرَجُلٍ: «إِذَا أَوْتَرْتَ أَوَّلَ اللَّيْلِ فَلَا تُشْفِعْ بِرَكْعَةٍ وَصَلِّ شَفْعًا حَتَّى تُصْبِحَ» قَالَ: وَكَانَ عَطَاءٌ يُفْتِي بِهِ، يَقُولُ: «إِذَا أَوْتَرَ أَوَّلَ اللَّيْلِ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فَلْيُصَلِّ شَفْعًا حَتَّى يُصْبِحَ». حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ قَالَ: ثنا حَمَّادٌ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَعَائِذَ بْنَ عَمْرٍو عَنِ الرَّجُلِ يُوتِرُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، ثُمَّ يَقُومُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، فَقَالَ: لَا تُصَلِّ وِتْرَكَ ". حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرٍ قَالَ: ثَنَا غُنْدُرٌ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُهَاجِرِ، عَنْ كُلَيْبٍ الْجَرْمِيِّ، عَنْ سَعْدٍ قَالَ: «أَمَّا أَنَا فَإِذَا أَوْتَرْتُ، ثُمَّ قُمْتُ صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ». حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ: ثَنَا أَبٌو بَكْرٍ قَالَ: ثنا وَكِيعٌ قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ خِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو الْهَجَرِيِّ، عَنْ عَمَّارٍ قَالَ: «أَمَّا أَنَا فَأُوتِرُ فَإِذَا قُمْتُ صَلَّيْتُ مَثْنَى مَثْنَى، وَتَرَكْتُ وِتْرِيَ الْأَوَّلَ كَمَا هُوَ». حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَ: " ذُكِرَ لَهَا الرَّجُلُ يُوتِرُ، ثُمَّ يَسْتَيْقِظُ فَيَشْفَعُ بِرَكْعَةٍ، قَالَتْ: «ذَاكَ الَّذِي يَلْعَبُ بِوِتْرِهِ» وَكَانَ عَلْقَمَةُ لَا يَرَى نَقْضَ الْوِتْرِ، وَهَكَذَا مَذْهَبُ النَّخَعِيِّ، وَطَاوُسٍ، وَأَبِي مِجْلَزٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ). (الأوسط ج5 ص198).

قال شيخنا الشيخ العلامة محمد بن علي آدم: (المذهب الراجح عندي هو مذهب أكثر أهل العلم، وهو عدم نقض الوتر؛ إذ لا دليل عليه، كما قرره ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ-، وأن من صلى الوتر قبل النوم، ثم استيقظ بعد النوم صلى ركعتين ركعتين، وأما احتجاج القائلين بنقض الوتر بحديث: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا"، فالجواب عنه أن الأمر فيه ليس للإيجاب، وإنما هو للاستحباب، بدليل أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يصلي بعد الوتر ركعتين جالسًا، فإنه يدلّ على أن الأمر المذكور للاستحباب، لا للإيجاب، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب).
(البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج ج15 ص587).

وقال الإمام ابن المنذر أيضا: (وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ الْوِتْرِ فَكَانَ قَيْسُ بْنُ عَبَّادٍ يَقُولُ: «أَقْرَأُ وَأَنَا جَالِسٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُصَلِّيَ بَعْدَمَا أُوتِرُ» ، وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ لَا يَعْرِفُ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: «إِنْ شَاءَ رَكْعَةً» ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: «أَرْجُو إِنْ فَعَلَهُ إِنْسَانٌ لَا يُضَيَّقُ عَلَيْهِ» ، وَقَالَ أَحْمَدُ: «لَا أَفْعَلُهُ» . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصَّلَاةُ فِي كُلِّ وَقْتٍ جَائِزَةٌ إِلَّا وَقْتًا نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَالْأَوْقَاتُ الَّتِي نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا وَقْتُ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَوَقْتُ الزَّوَالِ، وَوَقْتُ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَالصَّلَاةُ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ طَلْقٌ مُبَاحٌ، لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ فِيهَا إِلَّا بِحُجَّةٍ، وَلَا حُجَّةَ مَعَ مَنْ كَرِهَ الصَّلَاةَ بَعْدَ الْوِتْرِ، فَدَلَّ فِعْلُهُ هَذَا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ وِتْرًا» عَلَى الِاخْتِيَارِ لَا عَلَى الْإِيجَابِ، فَنَحْنُ نَسْتَحِبُّ أَنْ يَجْعَلَ الْمَرْءُ آخِرَ صَلَاتِهِ وِتْرًا، وَلَا نَكْرَهُ الصَّلَاةَ بَعْدَ الْوِتْرِ، وَقَائِلُ هَذَا قَائِلٌ بِالْخَبَرَيْنِ جَمِيعًا). (الأوسط ج5 ص202).

قال شيخنا الشيخ العلامة محمد بن علي آدم: (هذا الذي قاله ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ- تحقيق حسنٌ جدًّا، فالراجح قول من قال بجواز الصلاة بعد الوتر، لصحة هذا الحديث، وغيره، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل). (البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج ج15 ص491).

وقال الإمام محمد بن نصر -رَحِمَهُ اللَّهُ-:  باب الصلاة بعد الوتر عمن بعد النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن عون ، قال : ذكروا عند إبراهيم الركعتين بعد الوتر فقال : عمن ؟ ، قالوا : عن سعد بن هشام عن عائشة . فقال : هذا خبر لا أراه شيئا ، كان الأسود يفعل ويفعل ، ويرفع لها من زاده ، ولو كان من هذا شيء عنها لم يخف عليه، وعن أبي سعيد الخدري أنه كره الصلاة بعد الوتر، وسئل سعيد بن جُبير عن الصلاة بعد الوتر؟ فقال: لا، حتى ينام نومة، وعن إبراهيم أنه كره الصلاة بعد الوتر مكانه، وعن ميمون بن مهران: إذا أوترتَ فتحوّلْ، ثمَّ صلّ، وفي رواية: إذا أوترت، ثمَّ حوّلت قدميك، فصلّ ما بدا لك، وقيل لأبي العالية: ما تقول في السجدتين بعد الوتر؟ قال: تَنقُضُ وترك، قيل: الحسنُ يأمرنا بذلك، فقال: رحم اللَّه الحسن، قد سمعنا العلم، وتعلّمناه قبل أن يولد الحسن. وكان سعد بن أبي وقّاص -رضي اللَّه عنه- يوتر، ثمَّ يصلي على إثر الوتر مكانه، وكان الحسن يأمر بسجدتين بعد الوتر، فذُكر ذلك لابن سيرين، فقال: أنتم تفعلون ذاك؟ ، وقال كثير بن مرّة، وخالد بن معدان: لا تدعهما، وأنت تستطيع -يعني الركعتين بعد الوتر-، وقال عبد اللَّه بن مساحق: كلّ وتر ليس بعده ركعتان، فهو أبتر. وقال عياض بن عبد اللَّه: رأيت أبا سلمة بن عبد الرحمن أوتر، ثمَّ صلى ركعتين في المسجد أيضًا، وقال الأوزاعيّ: لا نعرف الركعتين بعد الوتر جالسًا، وإنما ركعهما ناس، وقد اجتمعت الأحاديث على صلاة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه كان يُصبح على ثلاث عشرة ركعة، ليس فيها هاتان الركعتان، وعن مكحول أنه صلى بعد الوتر في رمضان في المسجد ركعتين، وهو قائم، وقال سعيد، عن الحسن أنه كان يركعهما، وهو جالس، وكان سعيد لا يأخذ بهذا، ولا الأوزاعيّ، ولا مالك، قال الوليد بن مسلم: ذكرتهما لمالك، فلم يَعرفهما، وكرههما، وعن ابن القاسم: سئل مالك عن الذي يوتر في المسجد، ثمَّ يريد أن يتنفّل بعد ذلك؟ قال: نعم، ولكن يتلبّث شيئًا). 
انتهى من كتابه (صلاة الوتر)  باب الصلاة بعد الوتر عمن بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما حديث (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً): 
فقد قال الحافظ ابن حجر: (وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّهُ لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْوِتْرِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي مَشْرُوعِيَّةِ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ عَنْ جُلُوسٍ، وَالثَّانِي: فِيمَنْ أَوْتَرَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتَنَفَّلَ فِي اللَّيْلِ هَلْ يَكْتَفِي بِوِتْرِهِ الْأَوَّلِ وَلْيَتَنَفَّلْ مَا شَاءَ أَوْ يَشْفَعْ وِتْرَهُ بِرَكْعَةٍ ثُمَّ يَتَنَفَّلْ، ثُمَّ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ هَلْ يَحْتَاجُ إِلَى وِتْرٍ آخَرَ أَوْ لَا؟ فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ وَهُوَ جَالِسٌ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَجَعَلُوا الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ: "اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ مِنَ اللَّيْلِ وِتْرًا" مُخْتَصًّا بِمَنْ أَوْتَرَ آخِرَ اللَّيْلِ، وَأَجَابَ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ بِأَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ هُمَا رَكْعَتَا الْفَجْرِ، وَحَمَلَهُ النَّوَوِيُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ لِبَيَانِ جَوَازِ التَّنَفُّلِ بَعْدَ الْوِتْرِ وَجَوَازِ التَّنَفُّلِ جَالِسًا، وَأَمَّا الثَّانِي فَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إِلَى أَنَّهُ يُصَلِّي شَفْعًا مَا أَرَادَ، وَلَا يُنْقَضُ وِتْرُهُ عَمَلًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ" وَهُوَ حَدِيث حسن أخرجه النَّسَائِيّ وابن خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ نَقْضِ الْوِتْرِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِمَشْرُوعِيَّةِ التَّنَفُّلِ بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرِ الْوِتْرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ سَأَلَ ابن عُمَرَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: "إِذَا كُنْتَ لَا تَخَافُ الصُّبْحَ وَلَا النَّوْمَ فَاشْفَعْ ثُمَّ صَلِّ مَا بَدَا لَكَ ثُمَّ أَوْتِرْ وَإِلَّا فَصَلِّ وِتْرَكَ عَلَى الَّذِي كُنْتَ أَوْتَرْتَ" وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَن ابن عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: "أَمَّا أَنَا فَأُصَلِّي مَثْنَى فَإِذَا انْصَرَفْتُ رَكَعْتُ رَكْعَةً وَاحِدَةً، فَقِيلَ: أَرَأَيْتَ إِنْ أَوْتَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ ثُمَّ قُمْتُ مِنَ اللَّيْلِ فَشَفَعْتُ حَتَّى أُصْبِحَ؟ قَالَ: لَيْسَ بِذَلِكَ بَأْسٌ). (فتح الباري ج2 ص480).
قال شيخنا الشيخ العلامة محمد بن علي آدم: (وأما احتجاج القائلين بنقض الوتر بحديث: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا"، فالجواب عنه أن الأمر فيه ليس للإيجاب، وإنما هو للاستحباب، بدليل أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يصلي بعد الوتر ركعتين جالسًا، فإنه يدلّ على أن الأمر المذكور للاستحباب، لا للإيجاب، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب).
(البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج ج15 ص587).
وقال أيضا: (جعل الأمر في قوله: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا" مختصًّا بمن أوتر آخر الليل، وحمله النوويُّ على أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- فعل ذلك لبيان جواز النفل بعد الوتر، وجواز التنفل جالسًا، يعني أن الأمر فيه أمر ندب، لا أمر إيجاب، فلا تعارض بينهما.
وهذا الذي قاله النوويُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- من وجه الجمع هو الصواب عندي، وأما ما جمع به الشوكانيّ من أنه: لا يعارض فعله قوله، فالجواز مختصّ به، والأمر مختصّ بالأمة، فليس بصحيح، وقد تقدم الردّ عليه غير مرة، فتنبّه واللَّه تعالى أعلم). 
(البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج ج15 ص543).

وقال أيضاً:
(فإن قلت: هذا ينافي ما سبق من كونه -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلي بعد الوتر ركعتين. 
قلت: لا تنافي بينهما؛ لأن هذا محمول على غالب أحواله -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلا ينافي ما وقع منه في نادر الأوقات، لبيان الجواز).
(البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج ج15 ص506).

وأما حديث: (توتر له ما قد صلى):
فقد قال الحافظ ابن حجر: (قَوْلُهُ: "تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى" اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الرَّكْعَةَ الْأَخِيرَةَ هِيَ الْوِتْرُ وَأَنَّ كُلَّ مَا تَقَدَّمَهَا شَفْعٌ، وَادَّعَى بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يُشْرَعُ لِمَنْ طَرَقَهُ الْفَجْرُ قَبْلَ أَنْ يُوتِرَ فَيَكْتَفِي بِوَاحِدَةٍ لِقَوْلِهِ فَإِذَا خَشِيَ الصُّبْحَ فَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلِ تَعَيُّنِ الثَّلَاثِ وَسَنَذْكُرُ مَا فِيهِ مِنْ رِوَايَةِ الْقَاسِمِ الْآتِيَةِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَعَيُّنِ الشَّفْعِ قَبْلَ الْوِتْرِ وَهُوَ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ "مَا قَدْ صَلَّى" أَيْ مِنَ النَّفْلِ، وَحَمَلَهُ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ سَبْقَ الشَّفْعِ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ النَّفْلِ وَالْفَرْضِ وَقَالُوا إِنَّ سَبْقَ الشَّفْعِ شَرْطٌ فِي الْكَمَالِ لَا فِي الصِّحَّةِ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ مَرْفُوعًا الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ شَاءَ أَوْتَرَ بِخَمْسٍ وَمَنْ شَاءَ بِثَلَاثٍ وَمَنْ شَاءَ بِوَاحِدَةٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَصَححهُ بن حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ أَوْتَرُوا بِوَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ نَفْلٍ قَبْلَهَا، فَفِي كِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ وَغَيْرِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ عُثْمَانَ قَرَأَ الْقُرْآنَ لَيْلَةً فِي رَكْعَةٍ لَمْ يُصَلِّ غَيْرَهَا وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ أَنَّ سَعْدًا أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ وَسَيَأْتِي فِي الْمَنَاقِبِ عَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ أَوْتَرَ بِرَكْعَة وَأَن بن عَبَّاسٍ اسْتَصْوَبَهُ وَفِي كُلِّ ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى ابن التِّينِ فِي قَوْلِهِ إِنَّ الْفُقَهَاءَ لَمْ يَأْخُذُوا بِعَمَلِ مُعَاوِيَةَ فِي ذَلِكَ وَكَأَنَّهُ أَرَادَ فُقَهَاءَهُمْ). (فتح الباري ج2 ص481).



فائدة
قال محمد بن نصر رحمه الله : اختلف الناس في طول القيام في الصلاة ، وكثرة الركوع والسجود ، أيهما أفضل ؟ فقال بعضهم : كثرة السجود أفضل ، واحتج بقوله عليه السلام : « من سجد لله سجدة رفعه الله بها درجة » ، وأنه قال : « أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد » ، وغير ذلك . وقال بعضهم : لا ، بل طول القيام أفضل ، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : أي الصلاة أفضل ؟ قال : « طول القيام » قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : « إن من أفضل الصلاة الركوع والسجود » وحدثنا إسحاق ، أخبرنا عيسى بن يونس ، ثنا ثور بن يزيد ، عن أبي المنيب ، قال : رأى ابن عمر رضي الله عنه فتى أطال الصلاة وأطنب فيها ، فقال : أيكم يعرف هذا ؟ فقال رجل : أنا أعرفه ، فقال : أما إني لو عرفته لأمرته أن يكثر الركوع والسجود ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن العبد إذا قام إلى الصلاة أتي بذنوبه كلها فوضعت على عاتقه فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه » وعن الحجاج بن حسان : سألت أبا مجلز رحمه الله : « أيما أحب إليك ، طول القيام أو الركوع والسجود ؟ ، قال : طول القيام » وقال شريك : كان يقال : « طول القنوت بالليل وكثرة الركوع والسجود بالنهار » وهو قول يحيى بن آدم وقال وفي الأخبار المروية في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل دليل على اختياره طول القيام وتطويل الركوع والسجود ، وذلك أن أكثر ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى من الليل ثلاث عشرة ركعة بالوتر ، وقد صلى إحدى عشرة ، وتسع ركعات ، وسبع ركعات يطول فيها القراءة والركوع والسجود جميعا ، وذلك دليل على تفضيل التطويل على كثرة الركوع والسجود . وقد روينا عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي الصلاة أفضل ؟ قال : « طول القيام »). (قيام الليل ص178).


وكتب: 
عبد الله بن سعيد الهليل
رمضان 1440
وتمت الزوائد في رمضان 1442
—————

https://twitter.com/ALHLYL/status/1130689936842285056?s=09

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بيان أن الصحابة كانوا يقولون في تشهد الصلاة (السلام عليك أيها النبي) بصيغة المُخَاطَبة، في حياة النبي ﷺ، وبيان أنهم كانوا يقولون (السلام على النبي) بصيغة: الْغَيْبَةِ، بعد وفاة النبي ﷺ

حَدِيْثُ أَنَسٍ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ الثُّفْلُ.

خطبة الجمعة (فضل العلم وأهله وفضل النفقة على أهله والحث على طلبه)