صيام يوم عرفة وما ورد في بعض أحاديثه من إجمال

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:

فهذا بيانٌ لحديث قد تم نشره على نطاق واسع، وخشيت أن يُفهم خطأ، ثم يترتب على هذا الفهم مفاسد، فسأذكر الحديث ثم بيانه فأقول مستعينا بالله المعين:

صح عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ ، وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ). رواه الترمذي وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، ورواه النسائي، ورواه أحمد والدارمي، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، ورواه الحاكم في مستدركه وقال: (هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ).
وهذا الحديث فيه لفظة مجملة غير مفسرة، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (يوم عرفة)، وهذا الإجمال إذا فهمه الإنسان على ظاهره من غير معرفة بسياق الحديث وموضع وروده فإنه قد يعتقد أن صيام يوم عرفة منهي عنه مطلقاً، وهذا الاعتقاد باطلٌ لأنه لم يكن على بصيرة وتحقيق، فهذا الحديث المتقدم قد ورد في الحج، وأن الحاج لا يصوم يوم عرفة، لأسباب كثيرة منها: أنه في سفر، وأنه في عبادة عظيمة وهي الحج، فاشتغاله بها وبالدعاء في ذلك المكان (عرفات) خير له من صومه فيه.

فالشاهد أن الحديث ورد في مسألة معينة لا يجوز تجاوزها إلى غيرها، فقد ورد في الحديث الآخر الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رغَّبَ بصيام يوم عرفة، وأخبر أنه يكفر سنتين، سنة ماضية وسنة مستقبلة. رواه مسلم (١١٦٢) وهذا ورد في غير الحج.

فلا تعارض بين هذين الحديثين إذا فهمنا موضع إيراد كلا الحديثين.

فهذا هو الفهم الصحيح، ويتبين جلياً إذا نظرنا إلى موضع إيراد الأئمة لكلا الحديثين.

وقد روى الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ، دَعَا الْفَضْلَ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى طَعَامٍ، فَقَالَ: إِنِّي صَائِمٌ. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: " لَا تَصُمْ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُرِّبَ إِلَيْهِ حِلابٌ، فَشَرِبَ مِنْهُ هَذَا الْيَوْمَ، وَإِنَّ النَّاسَ يَسْتَنُّونَ بِكُمْ. [المسند ٢٩٤٦،٣٤٧٦].


وقال الإمام أبو بكر ابن خزيمة: ( بَابُ فَضْلِ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ ، وَتَكْفِيرِ الذُّنُوبِ بِلَفْظِ خَبَرٍ مُجْمَلٍ غَيْر مُفَسَّرٍ ) ثم أورد حديث أبي قتادة عن فضل صوم يوم عرفة (يكفر السنة الماضية والمستقبلة).
ثم قال: (بَابُ ذِكْرِ خَبَرٍ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ مُجْمَلٍ غَيْر مُفَسَّرٍ). انتهى النقل. 

قال الإمام الذهبي: وَجَاءَ النَّهْيُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ فِي (السُّنَنِ) بِإِسْنَادٍ لاَ بَأْسَ بِهِ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: (لَيْسَ مِنَ البِرِّ أَنْ تَصُوْمُوا فِي السَّفَرِ). وَالأَفْضَلُ لِلْمُسَافِرِ إِفطَارُ صَوْمِ الفَرْضِ، فَالنَّافِلَةُ أَوْلَى، فَمَنْ صَامَ يَوْمَ عَرَفَةَ بِهَا مَعَ عِلْمِهِ بِالنَّهْيِ، وَبأَنَّ الرَّسُوْلَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا صَامَهُ بِهَا، وَلاَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ - فِيْمَا نَعْلَمُ - لَمْ يُصِبْ - وَاللهُ أَعْلَمُ -. وَلاَ نَقطَعُ عَلَى اللهِ بِأَنَّ اللهَ لاَ يَأْجُرُهُ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ صَوْمُهُ لَهُ مُكَفِّراً لِسَنَتَيْنِ؛ لأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي حَقِّ المُقِيمِ، لاَ المُسَافِرِ. (سير الأعلام للذهبي ج10 ص683).


فظهر بهذا أن لكل حديث مورده الذي ورد من أجله، وأنه ينبغي على طالب العلم أن يعرف السياق والباب الذي تم إخراج الحديث فيه، وأن يفهم مراد أهل العلم من إيراده لكيلا يقع في زلة سائلين الله العافية، والله الموفق.

وكتب
عبد الله الهليل الشمري
ليلة ثاني أيام التشريق 1441

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بيان أن الصحابة كانوا يقولون في تشهد الصلاة (السلام عليك أيها النبي) بصيغة المُخَاطَبة، في حياة النبي ﷺ، وبيان أنهم كانوا يقولون (السلام على النبي) بصيغة: الْغَيْبَةِ، بعد وفاة النبي ﷺ

حَدِيْثُ أَنَسٍ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ الثُّفْلُ.

خطبة الجمعة (فضل العلم وأهله وفضل النفقة على أهله والحث على طلبه)