الأخذ عن الأصاغر من أعجب الأمور

 ﷽

عجبت من ناسٍ هم أكبر مني سناً وقدراً، -وربما أفضل مني عند الله تعالى- يستفيدون مني بعض الفوائد العلمية، وهذا يدل على تواضعهم وحسن أخلاقهم، ونبلهم، ويدل على بعدهم من الكِبْر، فلله درهم، وقد تذكرت آثاراً عن السلف الصالح تتعلق بذلك، وجمعت آثاراً أخرى، فأحببت أن تشاركوني بها، للفائدة، والأصل في هذا: تحديث النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أحد أصحابه، وهو تميم الداري حديث (الْجَسَّاسَة)، أعني ما رواه مسلم في صحيحه عن فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، وهو حديث طويل، وفيه، قالت: (سَمِعْتُ نِدَاءَ الْمُنَادِي ، مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَادِي : الصَّلَاةَ جَامِعَةً ، فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَصَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَكُنْتُ فِي صَفِّ النِّسَاءِ الَّتِي تَلِي ظُهُورَ الْقَوْمِ ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَضْحَكُ ، فَقَالَ : لِيَلْزَمْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُصَلَّاهُ . ثُمَّ قَالَ : أَتَدْرُونَ لِمَ جَمَعْتُكُمْ؟ قَالُوا : اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ : إِنِّي وَاللهِ مَا جَمَعْتُكُمْ لِرَغْبَةٍ وَلَا لِرَهْبَةٍ ، وَلَكِنْ جَمَعْتُكُمْ لِأَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ كَانَ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا ، فَجَاءَ فَبَايَعَ وَأَسْلَمَ ، وَحَدَّثَنِي حَدِيثًا وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْ مَسِيحِ الدَّجَّالِ ). ثم حدث عنه بقية القصة، كما في صحيح مسلم (2942).

وهكذا الصحابة والتابعون يأخذون عمن هو أصغر منهم، فقد روى البخاري في صحيحه عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ،  فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ: لِمَ تُدْخِلُ هَذَا الْفَتَى مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ مِمَّنْ قَدْ عَلِمْتُمْ ، قَالَ: فَدَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ وَدَعَانِي مَعَهُمْ ، قَالَ: وَمَا رُؤْيَتُهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إِلَّا لِيُرِيَهُمْ مِنِّي ، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ: { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ } حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نَدْرِي ، أَوْ لَمْ يَقُلْ بَعْضُهُمْ شَيْئًا ، فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ ، أَكَذَاكَ تَقُولُ؟ قُلْتُ: لَا ، قَالَ: فَمَا تَقُولُ؟ قُلْتُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ اللهُ لَهُ: { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ } فَتْحُ مَكَّةَ ، فَذَاكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ: { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } قَالَ عُمَرُ : مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَعْلَمُ .


فهذا أمير المؤمنين وثاني الخلفاء والمُحَدَّث المُلْهَم والذي كان إسلامه فتحاً والملقب بالفاروق لأنه فرق الله به بين الحق والباطل يأخذ عن شاب صغير السن ! في ذاك الزمن، وهو ابن عباس، فهذا من أعجب الأشياء !، فما أحسن أخلاق القوم وما أحسن تواضعهم وما أحسن إنزالهم للناس منازلهم، فإن معرفة أقدار الناس وتنزيلهم على منازلهم التي أنزلهم الله عليها، يثمر التواضع ومعرفة النفس وعدم التكبر، وغيرها من الأخلاق الفاضلة.


وفي الصحيح عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: (كَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجْلِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ ، كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا). رواه البخاري (7286).

الْقُرَّاءُ هم: الْعُلَمَاءُ الْعُبَّادُ.

والكهول جمع كهل ، والشبان جمع شاب ، أراد أن هؤلاء المذكورين أصحاب مجلسه وأصحاب مشورته سواء فيهم الكهول أو الشبان، لأن كلهم كانوا على خير، ولأن العبرة بالمخابر لا بالمظاهر.

 (فتح الباري ج13 ص272)، (عمد القاري ج25 ص30).


وروى الإمام الحافظ الخطيب البغدادي (ت 463 ه): عَنْ وكيعِ بنِ الجرَّاحِ قال: «لَا يَكُونُ الرَّجُلُ عَالِمًا حَتَّى يَسْمَعَ مِمَّنْ هُوَ أَسَنُّ مِنْهُ وَمِمَّنْ هُوَ دُونَهُ وَمِمَّنْ هُوَ مِثْلُهُ»، وفي رواية: ((لا يَنْبُلُ الرجُلُ مِنْ أصحابِ الحديثِ حَتَّى يَكْتُبَ عَمَّنْ هوَ فَوْقَهُ وعَمَّنْ هوَ مِثْلُهُ، وعَمَّنْ هوَ دُونَهُ)).

وروى عن سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ، قال: «لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ حَتَّى يَأْخُذَ عَمَّنْ فَوْقَهُ وَعَمَّنْ هُوَ دُونَهُ وَعَمَّنْ هُوَ مِثْلُهُ»

وروى بإسناده عن أبي حَاتِمٍ الرَّازِيَّ، يَقُولُ: " كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ يَكْتُبُ عَمَّنْ دُونَهُ مِثْلِ رِشْدِينَ بْنِ سَعْدٍ وَغَيْرِهِ، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَمْ تَكْتُبُ؟ قَالَ: فَقَالَ: لَعَلَّ الْكَلِمَةَ الَّتِي فِيهَا نَجَاتِي لَمْ تَقَعْ إِلَيَّ !". (الجامع للخطيب ج2 ص216) (معرفة أنواع علوم الحديث لابن الصلاح)


بل إن التابعي الجليل: عمرو بن شعيب، حفيد الصحابي عبد الله بن عمرو بن العاص، روى بنفسه عن أكثر من خمسين رجلاً ممن هم دونه في السن والقدر ! وقد ذكرهم الحافظ العراقي في كتابه (التقييد والإيضاح).

فالله يرزقنا التواضع وحسن الأخلاق بمنه وكرمه وصلى الله على محمد وآله.


وكتب

عبد الله الهليل الشمري

4 رجب 1442

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بيان أن الصحابة كانوا يقولون في تشهد الصلاة (السلام عليك أيها النبي) بصيغة المُخَاطَبة، في حياة النبي ﷺ، وبيان أنهم كانوا يقولون (السلام على النبي) بصيغة: الْغَيْبَةِ، بعد وفاة النبي ﷺ

حَدِيْثُ أَنَسٍ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ الثُّفْلُ.

خطبة الجمعة (فضل العلم وأهله وفضل النفقة على أهله والحث على طلبه)