الرد على تعظيم بعض الناس: علم الفلك
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله، أما بعد:
فإن بعض الناس عظموا شأن الحساب الفلكي وما يزعمه أهل الفلك، بل بعضهم تجاوز الحد وقال: إن علم الفلك مبني على حقائق صحيحة مائة بالمائة!!!، وهذا خلاف ما قرره أئمة الإسلام، حيث فصلوا فيه، ووضحوا الهام منه من غيره، وذموا كثيرا مما وقع فيه أهل الحساب -وما زال بعضهم يقع فيه إلى اليوم- من الخرافات والترهات والأباطيل، فإليك بعض ما قاله مشايخ الإسلام في ذلك:
قال البخاري في صحيحه: (بَابٌ فِي النُّجُومِ وَقَالَ قَتَادَةُ { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ } خَلَقَ هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلَاثٍ: جَعَلَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَعَلَامَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا فَمَنْ تَأَوَّلَ فِيهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ أَخْطَأَ وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ). وهذا الأثر روي موصولاً، قال ابن حجر: (وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ عَنْهُ بِهِ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: "وَأَنَّ نَاسًا جَهَلَةً بِأَمْرِ اللَّهِ قَدْ أَحْدَثُوا فِي هَذِهِ النُّجُومِ كِهَانَةً مَنْ غَرَسَ بِنَجْمِ كَذَا كَانَ كَذَا وَمَنْ سَافَرَ بِنَجْمِ كَذَا كَانَ كَذَا، وَلَعَمْرِي مَا مِنَ النُّجُومِ نَجْمٌ إِلَّا وَيُولَدُ بِهِ الطَّوِيلُ وَالْقَصِيرُ وَالْأَحْمَرُ وَالْأَبْيَضُ وَالْحَسَنُ وَالدَّمِيمُ، وَمَا عِلْمُ هَذِهِ النُّجُومِ وَهَذِهِ الدَّابَّةِ وَهَذَا الطَّائِر شَيْء مِنْ هَذَا الْغَيْبِ" انْتَهَى). [فتح الباري ج6 ص295].
وقال الإمام صاحب التصانيف السائرة الحافظ الخطيب البغدادي (المتوفى سنة 436 هجري) رحمه الله في كتابه (القول في علم النجوم): (سَأَلَ سَائِلٌ عَنِ النُّجُومِ: هَلِ الشُّرُوعُ فِيهِ مَحْمُودٌ أَمْ مَذْمُومٌ؟ وَأَنَا أَذْكُرُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ الْمُسْتَقِيمِ مَا تَيَسَّرَ بِتَوْفِيقِ مَوْلايَ الْكَرِيمِ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. فَأَقُولُ: إِنَّ عِلْمَ النُّجُومِ يَشْتَمِلُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا مُبَاحٌ، وَتَعَلُّمُهُ فَضِيلَةٌ. وَالآخَرُ مَحْظُورٌ، وَالنَّظَرُ فِيهِ مَكْرُوهٌ.
فَأَمَّا الضَّرْبُ الأَوَّلُ: فَهُوَ الْعِلْمُ بِأَسْمَاءِ الْكَوَاكِبِ، وَمَنَاظِرِهَا، وَمَطَالِعِهَا، وَمَسَاقِطِهَا، وَسَيْرِهَا، وَالاهْتِدَاءُ بِهَا، وَانْتِقَالُ الْعَرَبِ عَنْ مِيَاهِهَا لأَوْقَاتِهَا، وَتَخَيُّرُهُمُ الأَزْمَانَ لِنِتَاجِ مَوَاشِيهَا، وَضِرَابِهِمُ الْفُحُولَ، وَمَعْرِفَتُهُمْ بِالأَمْطَارِ عَلَى اخْتِلافِهَا، وَاسْتِدْلالُهُمْ عَلَى مَحْمُودِهَا وَمَذْمُومِهَا، وَالتَّوَصُّلُ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ بِالنُّجُومِ، وَمَعْرِفَةُ مَوَاقِيتِ الصَّلاةِ، وَسَاعَاتِ اللَّيْلِ بِظُهُورِهَا وَأُفُولِهَا.
وَقَدْ جَاءَ كَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفِي الآثَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنْ أَخْيَارِ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْخَالِفِينَ).
ثم فصل في هذا النوع، ثم قال: (وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي، وَهُوَ الْمَحْظُورُ، فَهُوَ مَا يَدَّعِيهِ الْمُنَجِّمُونَ مِنَ الأَحْكَامِ، وَلَيْسَ أَشَدُّ إِتْعَابًا لِلْفِكْرِ، وَإِنْصَابًا لِلْبَدَنِ، وَإِضْلالا لِلْفَهْمِ مِنْهُ، فَإِذَا أَنْفَدَ النَّاظِرُ فِيهِ عُمُرَهُ بِإِسْهَارِ اللَّيْلِ، وَشَغَلَ الْقَلْبَ عَنِ الْمَطْعَمِ، وَالْمَشْرَبِ، وَاللَّذَّاتِ، وَالْعَمَلِ لِلدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَتَبَاعَدَ مِنَ اللَّهِ، وَرَسُولِهِ، وَمِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَرَمَاهُ النَّاسُ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ بِالْكُفْرِ وَالزَّنْدَقَةِ، كَانَ عُرْفُهُ الَّذِي انْتَهَى إِلَيْهِ، وَزُبْدَتُهُ الَّتِي مَخَضَ عَنْهَا عِلْمَ كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مَتَى يَكُونُ؟ وَفِي أَيِّ وَقْتٍ يُحْدَثُ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ؟ وَمِقْدَارُ مَا يَكْسَفُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَوَقْتُ الانْجِلاءِ؟ وَهَذَا عِلْمٌ لا يَنْفَعُ اللَّهُ بِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، لا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الأُمُورِ، وَإِنَّمَا الْكُسُوفُ شَيْءٌ قَدَّرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِمَسِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، فَيَكُونُ بِاجْتِمَاعِهِمَا أَوْ تَقَابُلِهِمَا، وَلَيْسَ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْلَمْ وَقْتَ الْكُسُوفِ حِينَ يَكُونُ مِنْ عَيْبٍ وَلا نَقْصٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْعَيْبُ فِي الْجَهْلِ بِمَا تَعْلَمُهُ الْعَرَبُ مِنْ أَمْرِ النُّجُومِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ، فَإِنِ اسْتَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ، وَأَطْمَعَهُ فِي الْقَضَاءِ وَالأَحْكَامِ، وَاعْتَقَدَ فِي الْكُسُوفِ أَنَّهُ لِمَوْتِ أَحَدٍ أَوْ حَيَاتِهِ أَوْ حُلُولِ حَادِثَةٍ وَوُقُوعِ جَائِحَةٍ، فَقَدْ عَقِلَهُ الشَّيْطَانُ بِالْغُرُورِ، وَقَطَعَ أَسْبَابَهُ مِنَ الدِّينِ، لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَأْثَرَ بِالْغَيْبِ دُونَ أَنْبِيَائِهِ وَمَلائِكَتِهِ، إِلا مَا أَطْلَعَهُمْ عَلَيْهِ). انتهى كلامه. (القول في علم النجوم ص168)
هذا وقد وصف شيخ الإسلام ابن تيمية علم الحساب بأنه علم قليل المنفعة!، كما في مجموع فتاويه (مجموع الفتاوى ج35 ص175) ثم تجد من يعظمه وكأنه دين الله!.
وقال ابن القيم: (فشرعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للأمة عند انعقاد هذا السَّبب ما هو أنفعُ لهم وأجدى عليهم في دنياهم وأخراهم من اشتغالهم بعلم الهيئة وشأنِ الكسوف وأسبابه). (مفتاح دار السعادة ج3 ص1420)
هذا وقد أوضح شيخ الإسلام ابن تيمية السبب في تعظيم قدماء اليونان لعلم الهيئة والكواكب، فقال: (وَأَمَّا قُدَمَاءُ الْيُونَانِ فَكَانُوا مُشْرِكِينَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ شِرْكًا وَسِحْرًا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ، وَلِهَذَا عَظُمَتْ عِنَايَتُهُمْ بِعِلْمِ الْهَيْئَةِ وَالْكَوَاكِبِ لِأَجْلِ عِبَادَتِهَا). (مجموع الفتاوى ج17 ص331).
تتمة الفائدة: في علم النجوم (الفلك) قد أفاد وأجاد، وأبدع وأحكم، وردَّ وردع، الإمام القحطاني في قصيدته: القصيدة النونية (الشهيرة بنونية القحطاني والمكونة من 690 بيتاً) حيث أنه أوضح في أبيات قليلة ما تقدم بيانه من أن (علم النجوم) فيه تكهن وأباطيل كثيرة، فينبغي الحذر منه، وأوضح العلم المباح منه، وأن النجوم على ثلاثة أوجه كما سيأتي في البيت رقم (216 - 218)، فمما قال في ذلك:
198- لا تَتَّبِع علم النجوم فإنه ... متعلقٌ بزخارف الكُهَّانِ
199- علمُ النجوم وعلمُ شرع محمدٍ ... في قلب عبدٍ ليس يجتمعانِ
200- لو كان علمٌ للكواكب أو قضا ... لم يهبطِ المريخُ في السَّرطانِ
201- والشمس في الحمل المضيء سريعة ... وهبوطها في كوكب الميزانِ
202- والشمسُ محرقة لستة أنجم ... لكنها والبدرُ ينخسفانِ
203- ولربما اسودَّا وغاب ضِياهما ... وهما لخوف الله يرتعدانِ
204- أُردُد على من يطمئن إليهما ... ويظن أن كليهما رَبَّانِ
205- يا من يحب المشتري وعطارداً ... ويظن أنهما له سعدانِ
206- لم يهبطان ويعلوان تشرفا ... وبوهج حر الشمس يحترقان
207- أتخاف من زحلٍ وترجو المشتري ... وكلاهما عبدان مملوكان؟!
208- واللهِ لو ملَكَا حياةً أو فَنَا ... لَسجدتُّ نحوهما ليصطنعان
209- وليفسحا في مُدَّتي ويوسِّعا ... رزقي وبالإحسان يكتنفاني
210- بل كل ذلك في يد الله الذي ... ذلًّت لعزة وجهه الثقلان
211- فقد استوى زحل ونجم المشتري ... والرأس والذنب العظيم الشان
212- والزهرة الغراء مع مريخها ... وعطارد الوقاد مع كيوان
213- إن قابلت وتربعت وتثلثت ... وتسدست وتلاحقت بقران
214- ألها دليل سعادة أو شقوة؟ ... لا والذي برأَ الورى وبراني!
215- من قال بالتأثير فهو معطلٌ ... للشرع متبعٌ لقولٍ ثان
216- إن النجوم على ثلاثة أوجه ... فاسمع مقال الناقد الدهقان
217- بعض النجوم خُلِقن زينة للسما ... كالدُّر فوق ترائب النسوان
218- وكواكب تهدي المسافر في السُّرى ... ورجوم كل مثابر شيطان
219- لا يعلم الإنسان ما يُقضى غدا ... إذ كل يومٍ ربنا في شأن
220- والله يمطرنا الغيوث بفضله ... لا نوء عواء ولا دبران
221- من قال إن الغيث جاء بهنعة ... أو صرفة أو كوكب الميزان
222- فقد افترا إثما وبهتانا ولم ... يُنزل به الرحمن من سلطان
وكتب
عبد الله بن سعيد الهليل الشمري
ليلة 5 رمضان 1442
تعليقات
إرسال تعليق