الآثار الواردة في مشروعية التكبير المقيد خلف الصلوات المفروضة والنافلة، وبيان أن الراجح في بداية وقت التكبير المقيد هو: من فجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق بعد العصر

 ﷽

الآثار الواردة في مشروعية التكبير المقيد خلف الصلوات المفروضة والنافلة، وبيان أن الراجح في بداية وقت التكبير المقيد هو: من فجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق بعد العصر


الأثر الأول: أثر ابْن عُمَرَ

قال البخاري في صحيحه في (كتاب العيدين، بَابُ التَّكْبِيرِ أَيَّامَ مِنًى وَإِذَا غَدَا إِلَى عَرَفَةَ): "وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكَبِّرُ بِمِنًى تِلْكَ الْأَيَّامَ وَخَلْفَ الصَّلَوَاتِ وَعَلَى فِرَاشِهِ وَفِي فُسْطَاطِهِ وَمَجْلِسِهِ وَمَمْشَاهُ تِلْكَ الْأَيَّامَ جَمِيعًا". فقوله: (وَخَلْفَ الصَّلَوَاتِ) صريح في ذلك.

قال ابن حجر: (قَوْلُهُ: ( وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ... إِلَخْ ) وَصَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَالْفَاكِهِيُّ فِي " أَخْبَارِ مَكَّةَ " مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ : " أَخْبَرَنِي نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ " ، فَذكره سَوَاء. وَالْفُسْطَاطُ بِضَمِّ الْفَاءِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا وَيَجُوزُ ذَلِكَ بِالْمُثَنَّاةِ بَدَلَ الطَّاءِ ، وَبِإِدْغَامِهَا فِي السِّينِ فَتِلْكَ سِتُّ لُغَاتٍ ، وَقَوْلُهُ فِيهِ : وَتِلْكَ الْأَيَّامُ جَمِيعًا " أَرَادَ بِذَلِكَ التَّأْكِيدَ ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بِدُونِ وَاوٍ عَلَى أَنَّهَا ظَرْفٌ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ). (فتح الباري ج2 ص535).

والأثر في (أخبار مكة للفاكهي ج4 ص228) وفي (الأوسط لابن المنذر ج4 ص299).



الأثر الثاني: أثر مُحَمَّد بْن عَلِيٍّ أَبُي جَعْفَرٍ الْبَاقِر:

قال البخاري في صحيحه في (كتاب العيدين، بَاب فَضْلِ الْعَمَلِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ): "وَكَبَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ خَلْفَ النَّافِلَةِ".

قال ابن حجر: (قَوْلُهُ: ( وَكَبَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ النَّافِلَةَ ) هُوَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ ، وَقَدْ وَصَلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْمُؤْتَلَفِ مِنْ طَرِيقِ مَعْنِ بْنِ عِيسَى الْقَزَّازِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو وَهْنَةَ رُزَيْقٌ الْمَدَنِيُّ ، قَالَ : " رَأَيْتُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ يُكَبِّرُ بِمِنًى فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ خَلْفَ النَّوَافِلِ " ، وَأَبُو وَهْنَةَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْهَاءِ بَعْدَهَا نُونٌ ، وَرُزَيْقٌ بِتَقْدِيمِ الرَّاءِ مُصَغَّرًا ، وَفِي سِيَاقِ هَذَا الْأَثَرِ تَعَقُّبٌ عَلَى الْكِرْمَانِيِّ حَيْثُ جَعَلَهُ يَتَعَلَّقُ بِتَكْبِيرِ أَيَّامِ الْعَشْرِ كَالَّذِي قَبْلَهُ ، قَالَ ابْنُ التِّينِ : لَمْ يُتَابِعْ مُحَمَّدًا عَلَى هَذَا أَحَدٌ ، كَذَا قَالَ ، وَالْخِلَافُ ثَابِتٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ هَلْ يَخْتَصُّ التَّكْبِيرُ الَّذِي بَعْدَ الصَّلَاةِ فِي الْعِيدِ بِالْفَرَائِضِ أَوْ يَعُمُّ ، وَاخْتَلَفَ التَّرْجِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الِاخْتِصَاصُ). (فتح الباري ج2 ص532).


الأثر الثالث: 

قال البخاري في صحيحه في (كتاب العيدين، بَابُ التَّكْبِيرِ أَيَّامَ مِنًى وَإِذَا غَدَا إِلَى عَرَفَةَ): (وَكَانَ النِّسَاءُ يُكَبِّرْنَ خَلْفَ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ) !

قال ابن حجر: ( قَوْلُهُ : ( وَكَانَ النِّسَاءُ ) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ : " وَكُنَّ النِّسَاءُ " ، وَهِيَ عَلَى اللُّغَةِ الْقَلِيلَةِ ، وَأَبَانٌ الْمَذْكُورُ هُوَ ابْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى الْمَدِينَةِ فِي زَمَنِ ابْنِ عَمِّ أَبِيهِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ ، وَقَدْ وَصَلَ هَذَا الْأَثَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي " كِتَابِ الْعِيدَيْنِ " ، وَحَدِيثُ أُمِّ عَطِيَّةَ فِي الْبَابِ سَلَفُهُنَّ فِي ذَلِكَ ، وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآثَارُ عَلَى وُجُودِ التَّكْبِيرِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ . وَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي مَوَاضِعَ : فَمِنْهُمْ مَنْ قَصَرَ التَّكْبِيرَ عَلَى أَعْقَابِ الصَّلَوَاتِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ ذَلِكَ بِالْمَكْتُوبَاتِ دُونَ النَّوَافِلِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّهُ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ ، وَبِالْجَمَاعَةِ دُونَ الْمُنْفَرِدِ ، وَبِالْمُؤَدَّاةِ دُونَ الْمَقْضِيَّةِ ، وَبِالْمُقِيمِ دُونَ الْمُسَافِرِ ، وَبِسَاكِنِ الْمِصْرِ دُونَ الْقَرْيَةِ . وَظَاهِرُ اخْتِيَارِ الْبُخَارِيِّ شُمُولُ ذَلِكَ لِلْجَمِيعِ ، وَالْآثَارُ الَّتِي ذَكَرَهَا تُسَاعِدُهُ . وَلِلْعُلَمَاءِ اخْتِلَافٌ أَيْضًا فِي ابْتِدَائِهِ وَانْتِهَائِهِ ، فَقِيلَ : مِنْ صُبْحِ يَوْمِ عَرَفَةَ ، وَقِيلَ : مِنْ ظُهْرِهِ ، وَقِيلَ : مِنْ عَصْرِهِ ، وَقِيلَ : مِنْ صُبْحِ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَقِيلَ : مِنْ ظُهْرِهِ . وَقِيلَ : فِي الِانْتِهَاءِ إِلَى ظُهْرِ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَقِيلَ : إِلَى عَصْرِهِ ، وَقِيلَ : إِلَى ظُهْرِ ثَانِيهِ ، وَقِيلَ : إِلَى صُبْحِ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، وَقِيلَ : إِلَى ظُهْرِهِ ، وَقِيلَ . إِلَى [2/536] عَصْرِهِ . حَكَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا النَّوَوِيُّ إِلَّا الثَّانِيَ مِنَ الِانْتِهَاءِ . وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثٌ ، وَأَصَحُّ مَا وَرَدَ فِيهِ عَنِ الصَّحَابَةِ قَوْلُ عَلِيٍّ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ مِنْ صُبْحِ يَوْمِ عَرَفَةَ آخِرِ أَيَّامِ مِنًى أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ). (فتح الباري ج2 ص532).


الأثر الرابع: أثر أم عطية رضي الله عنها المتفق عليه، وهو يشهد لما قبله:

عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ يَوْمَ الْعِيدِ، حَتَّى نُخْرِجَ الْبِكْرَ مِنْ خِدْرِهَا ، حَتَّى نُخْرِجَ الْحُيَّضَ ، فَيَكُنَّ خَلْفَ النَّاسِ ، فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ ، وَيَدْعُونَ بِدُعَائِهِمْ ، يَرْجُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَطُهْرَتَهُ . رواه البخاري (971) ومسلم (890). واللفظ للبخاري.


وأما وقت التكبير المقيد فهو على الراجح: (مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، يُكَبِّرُ فِي الْعَصْرِ ثُمَّ يَقْطَعُ التَّكْبِيرَ).

وقد أشار البخاري إلى هذا في ترجمته لأثر ابن عمر الماضي، حيث قال: (بَابُ التَّكْبِيرِ أَيَّامَ مِنًى وَإِذَا غَدَا إِلَى عَرَفَةَ)، قال ابن حجر، والعيني: (قَوْلُهُ : ( بَابُ التَّكْبِيرِ أَيَّامَ مِنًى ) أَيْ يَوْمَ الْعِيدِ وَالثَّلَاثَةِ بَعْدَهُ ، وَقَوْلُهُ : ( وَإِذَا غَدَا إِلَى عَرَفَةَ ) أَيْ صُبْحَ يَوْمِ التَّاسِعِ). (فتح الباري ج2 ص535)، (عمدة القاري ج6 ص292).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي التَّكْبِيرِ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ: أَنْ يُكَبِّرَ مِنْ فَجْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَقِبَ كُلِّ صَلَاةٍ)). [ مجموع الفتاوى (٢٤ / ٢٢٠) ]

هذا وقد حكى أبو بكر ابن المنذر أكثر من عشرة أقوال في بداية ونهاية وقت التكبير المقيد، ورجّح ما ذكرته آنفاً، من أنه: (مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، يُكَبِّرُ فِي الْعَصْرِ ثُمَّ يَقْطَعُ التَّكْبِيرَ)، كما في كتابه: (الأوسط ج4 ص300)، وقال: (هَكَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَكْحُولٌ، وَبِهِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَيَعْقُوبُ، وَمُحَمَّدٌ). وروى بعض آثار القائلين به فقال: (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ: «كَانَ يُكَبِّرُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، ثُمَّ يُمْسِكُ صَلَاةَ الْعَصْرِ». حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَا: ثنا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، قَالَ: ثنا زَائِدَةُ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى الثَّعْلَبِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَلِيٍّ: «أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ مِنْ غَدَاةِ عَرَفَةَ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَيُكَبِّرُ بَعْدَ الْعَصْرِ وَيَقْطَعُ». حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ أَبِي بَكَّارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ مِنْ غَدَاةِ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، لَا يُكَبِّرُ الْمَغْرِبَ، اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا اللهُ أَكْبَرُ وَأَجَلُّ اللهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ». حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: ثنا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: «يُكَبِّرُ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يُكَبِّرُ بَعْدَ الْعَصْرِ»). 


قال الحافظ ابن رجب: (وذكر الله في هذه الأيام نوعان: أحدهما: مقيد عقيب الصلوات. والثاني: مطلق في سائر الأوقات.

فأما النوع الأول: فاتفق العلماء على أنه يشرع التكبير عقيب الصلوات في هذه الأيام في الجملة، وليس فيهِ حديث مرفوع صحيح، بل إنما فيهِ آثار عن الصحابة ومن بعدهم، وعمل المسلمين عليهِ. وهذا مما يدل على أن بعض ما أجمعت الأمة عليهِ لم ينقل إلينا فيهِ نص صريح عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل يكتفى بالعمل به. وقد قالَ مالك في هذا التكبير: إنه واجب. قالَ ابن عبد البر: يعني وجوب سنة. وهو كما قالَ.

وقد اختلف العلماء في أول وقت هذا التكبير وآخره. فقالت طائفة: يكبر من صلاة الصبح يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق.

فإن هذه أيام العيد، كما في حديث عقبة بن عامر، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام)) خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي، وصححه. وقد حكى الإمام أحمد هذا القول إجماعاً من الصحابة، حكاه عن عمر وعليّ وابن مسعود وابن عباس. فقيل له: فابن عباس اختلف عنه؛ فقالَ: هذا هوَ الصحيح عنه، وغيره لا يصح عنه. نقله الحسن بن ثواب، عن أحمد. وإلى هذا ذهب أحمد؛ لكنه يقول: إن هذا في حق أهل الأمصار، فأما أهل الموسم فإنهم يكبرون من صلاة الظهر يوم النحر؛ لأنهم قبل ذَلِكَ مشتغلون بالتلبية. وحكاه عن سفيان بن عيينة، وقال: هوَ قول حسن. ويمتد تكبيرهم إلى آخر أيام التشريق - أيضاً - على المشهور عنه. ونقل حرب، عنه، أنهم يكبرون إلى صلاة الغداة من آخر أيام التشريق. وممن فرق بين الخارج وأهل الأمصار: أبو ثور. وروى الخضر الكندي، عن

عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه، قال: إذا كان عليه تكبير وتلبية بدأ بالتكبير، ثم التلبية. قال أبو بكر بن جعفر: لم يروها غيره.

قلت: الخضر هذا، غير مشهور، وهو يروي عن عبد الله بن أحمد المناكير التي تخالف روايات الثقات، عنه، والذي نقل الثقات، عن أحمد، أن الحاج لا يكبر حتى يقطع التلبية، فكيف يجتمعان عليهِ؟ وقد حملها أبو بكر إلى ما إذا أخر الحاج رمي جمرة العقبة حتَّى صلى الظهر؛ فإنه يجتمع عليهِ في صلاة الظهر - حينئذ - تلبية وتكبير. ووجهه: بأن هذا الوقت وقت التكبير، وإنما صار وقت تلبية في حق هذا لتأخيره الرمي، وهو نوع تفريط منه، فلذلك بدأ بالتكبير قبل التلبية.

والاجماع الذي ذكره أحمد، إنما هو في ابتداء التكبير يوم عرفة من صلاة الصبح. أما آخر وقته، فقد اختلف فيه الصحابة الذين سماهم.

فأما علي، فكان يكبر من صبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق. وهي الرواية التي صححها الإمام أحمد، عن ابن عباس. وكذلك روي عن عمر. وروي، عنه: إلى صلاة الظهر من آخر أيام التشريق. وأنكره يحيى القطان. وإلى قول علي ذهب الثوري وابن أبي ليلى وشريك وإسحاق. ولم يفرق بين أهل منى وغيرها.وكذلك أكثر العلماء، وهو قول الثوري. وكذلك قال: إذا أجتمع التكبير والتلبية بدأ بالتكبير. وأما ابن مسعود، فإنه كان يكبر من صلاة الغداة يوم عرفة إلى الصلاة العصر يوم النحر. وهو قول أصحابه، كالأسود وعلقمة، وقول النخعي وأبي حنيفة. وروى خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: التكبير من الصلاة الظهر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق. وهذه الرواية التي ضعفها أحمد، وذكر أنها مختلفة. قال عبد الرزاق: وبلغني عن زيد بن ثابت - مثله. وعن الحسن، قال: يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الظهر من يوم النفر الأول. وروى العمري، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الفجر، من آخر أيام التشريق. وروى الواقدي بأسانيده، عن عثمان وابن عمر وزيد بن ثابت وأبي سعيد - نحوه. وعن عطاء، أن الأئمة كانوا يكبرون صلاة الظهر يوم النحر، يبتدؤن بالتكبير كذلك إلى آخر أيام التشريق. وقد روي عن عمر بن عبد العزيز التكبير من صلاة الظهر يوم النحر إلى صبح آخر أيام التشريق. وإليه ذهب مالك والشافعي - في أشهر أقواله. وله قول آخر كقول علي ومن وافقه. وله قول ثالث: بيدأ من ليلة النحر إلى صلاة الفجر من آخر أيام التشريق.

والمحققون من أصحابه على أن هذه الاقوال الثلاثه في حق أهل الأ مصار، فأما أهل الموسم بمنى، فإنهم يبدءون بالتكبير عقيب صلاة الظهر يوم النحر إلى الصبح من آخر أيام التشريق بغير خلاف، ونقلوه عن الشافعي. وهذا يوافق قول أحمد في ابتدائه. واختار جماعة من أصحابه القول بأن ابتداءه في الأمصار من صبح يوم عرفة وانتهاءه عصر آخر يوم من أيام التشريق. منهم المزني وابن سريج وابن المنذر والبيهقي وغيرهم من الفقهاء المحدثين منهم. قالوا: وعليه عمل الناس في الأمصار.

وفي المسألة للسلف أقوال أخر. وفي الباب حديث مرفوع، لايصح إسناده. وخرجه الحاكم من حديث علي وعمار. وضعفه البيهقي، وهو كما قال.

وقد أشار البخاري إلى مسألتين من مسائل هذا التكبير. إحداهما: أن التكبير يكون خلف الفرائض. وهل يكبر خلف صلاة التطوع؟

فقد تقدم في باب الماضي، عن محمد بن علي -وهو: أبو جعفر -، أنه كانَ يكبر خلف النوافل. وإلى قوله ذهب الشافعي - في أشهر قوليه - وابن المنذر. وقال أكثر العلماء: لايكبر عقب النوافل.

واختلفوا في التكبير عقب صلاة عيد النحر: فقال مجاهد: يكبر. وقال أحمد: إن ذهب رجل إلى ذا فقد روي فيه عن بعض التابعين، والمعروف في المكتوبة.

وقال أبو بكر ابن جعفر -من أصحابنا -: يكبر؛ لأن صلاة العيد عندنا فرض كفاية، فهي ملحقة بالفرائض، وهو قول إسحاق بن راهويه، وحكاه عن ابن عمر وعمر بن عبد العزيز والشعبي وعطاء الخراساني وغيرهم. وللشافعي قولان.

واختلفوا: هل يكبر من صلى الفرض وحده؟ على قولين.

أحدهما: لايكبر، وهو مروي عن ابن عمر. وذكره سفيان الثوري، عن أبي جعفر، عن أنس. وقال ابن مسعود: ليس بالتكبير في أيام التشريق على الواحد والاثنين، التكبير على من صلى في جماعة. وممن قال: لا يكبر إذا صلى الفرض وحده: الثوري وأبو حنيفة وأحمد - في رواية.

والقول الثاني: وهو قول الشعبي والنخعي والأوزاعي والثوري - في رواية أخرى - والحسن بن صالح ومالك والشافعي وأحمد في رواية أخرى. وقال هؤلاء كلهم: يكبر في السفر والحضر. وقال أبو حنيفة: لايكبر المسافر إلا إذا اقتدى بالمقيم، تبعاً له، واتفقوا على أن الحاج يكبرون بمنى. 

المسألة الثانية: أن النساء كن يكبرن إذا صلين مع الرجال في المسجد خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز - يعني: مسجد المدينة - في ليالي أيام التشريق. وهذا يدل على أن النساء إنما كن يشهدن المساجد بالليل، كما سبق.

ولا خلاف في أن النساء يكبرن مع الرجال تبعاً، إذا صلين معهم جماعة، ولكن المرأة تخفض صوتها بالتكبير.

وإن صلت منفردة، ففي تكبيرها الرجل المنفرد، بل هي أولى بعدم التكبير.

وإن صلى النساء جماعة، ففي تكبيرهن قولان - أيضاً -، وهما روايتان عن الثوري وأحمد. ومذهب أبي حنيفة: لايكبرن. ومذهب مالك والشافعي: يكبرن). انتهى (فتح الباري لابن رجب ج9 ص21).


وقال بدر الدين العيني: ( قوله: "خلف الصلوات" ظاهره يتناول الفرائض والنوافل). (عمدة القاري ج6 ص292).



وبالله التوفيق.


وكتب 

عبد الله بن سعيد الهليل الشمري

7 ذي الحجة 1442

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بيان أن الصحابة كانوا يقولون في تشهد الصلاة (السلام عليك أيها النبي) بصيغة المُخَاطَبة، في حياة النبي ﷺ، وبيان أنهم كانوا يقولون (السلام على النبي) بصيغة: الْغَيْبَةِ، بعد وفاة النبي ﷺ

حَدِيْثُ أَنَسٍ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ الثُّفْلُ.

خطبة الجمعة (فضل العلم وأهله وفضل النفقة على أهله والحث على طلبه)