خطبة الجمعة (وعظ وشحذ الهمم) الخطبة الثانية (إقامة الحدود عدل وحياة)
خطبة الجمعة (وعظ وشحذ الهمم) الخطبة الثانية (إقامة الحدود عدل وحياة)
الحمد لله الذى سبق كل شيء قِدماً، ووسع كل
شيء رحمة وعلما ونِعمَا، وهدى أولياءه طريقا نهجاً أَمَما، «وأنزل على عبده الكتاب
ولم يجعل له عوجا، قيما لينذر باسا شديدا من لدنه ويبشر المومنين الذين يعملون
الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا » . أحمده على مواهبه وهو أحق من حُمِدَ،
وأسأله أن يجعلنا أجمع ممن حظى برضاه وسعد،
وأستعينه على طاعته وهو أعز من استعين واستنجد،
وأستهديه توفيقا فإن «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ
فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا» وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
شهادة فاتحة لأقفال قلوبنا، راجحة بأثقال ذنوبنا منزهة له عن التشبيه والتمثيل بنا،
«وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا» وأشهد
أن محمدا عبده ورسوله أنزل عليه الفرقان، وبعثه بالهدى والإيمان ، وأخزى بدعوته
دعوة أولياء الشيطان وأبعدهم عن مقاعد السمع «فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ
لَهُ شِهَابًا رَصَدًا» أيها السامع قد أيقظك
صرف القدر من سِنَة الهوى وسكراته، ووعظك كتاب الله بزواجره
وعظاته، فتأمل حدوده وتدبر محكم آياته، «وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ
رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا» أين
الذين عتوا على الله وتعظَّموا، واستطالوا على عباده وتحكَّموا، وظنُّوا أن لن يُقدَر
عليهم حتى اصطُلِمُوا، «وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا
وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا» غرهم الأمل وكواذب الظنون، وذُهِلوا عن
طوارق الغِيَر وريب المنون، «وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ» «حَتَّى
إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا»
فهذبوا رحمكم الله سرائركم بتقوى الله وأخلصوا، واشكروا نعمته، «وَإِنْ تَعُدُّوا
نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا» واحذروا نقمته، ولا تعصوا واعتبروا بوعيده «قُلْ
كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ
السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى» وأَنْهِضُوا لطاعته هذه الهِممِ العاجزة، واركضُوا في
ميدان التقوى تحوزوا قَصَب خصله الفائزة، وادَّخِروا ما يُخلِّصكم يوم المحاسبة والمناجزة،
وانتظروا قوله: « وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً
وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا » ذلك يوم تُذهَلُ فيه الألباب
وتَرجف القلوب رجفا، وتُبدل الأرض وتُنسف الجبال نسفا، ولا يقبل الله فيه من
الظالمين عدلا ولا صرفا، وحُشر المجرمون يومئذ زُرقا، «وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ
صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ
أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا». إن أحسن الهَدي، هديُ محمدٍ نبينا وأصحابه،
وأفضل الذكر ذكر الله
وتلاوة كتابه، جعلنا الله وإياكم ممن اهتدى
بهديه وتأدّب بآدابه، ومن الذين قالوا «سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ
فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا» اللهم انفعنا بالكتاب والحكمة،
وارحمنا بالهداية والعصمة، وأوزعنا شكر ما
أوليتَ من نعمة «رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ
أَمْرِنَا رَشَدًا»
هّذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ الْجَلِيْلَ
لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيْمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ.
الخطبة الثانية:
إِنَّ
الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ
بِاللهِ مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ،
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ
مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَّا
بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللهِ وَخَيْرَ
الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللُه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرَّ الْأُمُوْرِ
مُحْدَثَاتُهَا وَكَلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلَّ ضَلَالَةٍ
فِيْ النَّارِ، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ، شُرِعَتِ الْحُدُودُ
زَوَاجِرَ لِلنُّفُوسِ وَنَكَالًا وَتَطْهِيرَاً ، فَهِيَ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ
لِحَقِّ اللهِ تَعَالَى ، ثُمَّ لأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْمُجْتَمَعِ ؛ مِنْهَا
يَنْزَجِرُ الْعَاصِي ، وَيَطْمَئِنُّ الْمُطِيعُ ، وَتَتَحَقَّقُ الْعَدَالَةُ ،
وَيَأْمَنُ النَّاسُ عَلَى أَرْوَاحِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، كَمَا
هُوَ الْحَالُ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الَّتِي تُقِيمُ حُدُودَ اللهِ .
وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ مِمَّا يَجِبُ أَنْ
يَفْرَحَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ كَائِنَاً مَنْ كَانَ أَنْ
يَعْتَرِضَ عَلَيْهَا بِالْتَّشْكِيكِ أَوْ بِالتَّنْدِيدِ كَمَا يَفْعَلُهُ
أَهْلُ النِّفَاقِ وَالشُّكُوكِ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَقْرَّ الْإِيمَانُ فِي
قُلُوبِهِمْ ، فَاللهُ جَلَّ وَعَلَا شَحَذَ عَزَائِمَ الْمُؤْمِنِينَ لإِقَامَةِ
الْحُدُودِ عَلَى الْمُعْتَدِينَ ، وَعَدَمِ الْاِسْتِسْلَاَمِ لِلْعَاطِفَةِ ،
فَقَالَ جَلَّ وَعَلَا : ﴿وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ
عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ .
وَقَالَ الْنَّبِيُّ ﷺ لأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ
: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ؟! ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ
فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فَلَا تَجُوزُ الرَّأْفَةُ بِهِمْ أَوِ
الْشَّفَاعَةُ لَهُمْ أَوِ الشَّفَقَةُ عَلَيْهِمْ ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ شَفَقَةً ،
هَذِهِ إِعَانَةٌ لِلظَّلَمَةِ وَرِضَاً بِمَا يَصْنَعُونَ ، بَلْ يَجِبُ
الْفَرَحُ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ ، لأَنَّهَا حِمَايَةٌ لِلدِّينِ وَالْمُجْتَمَعِ
، وَتَأْمِينٌ لِلطُّرُقِ ، وَاسْتِتْبَابٌ لِلْأَمْنِ فِي الْبِلَادِ حَضَرَاً
وَسَفَرَاً ، وَلِذَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُوَجِّهًا أَنْظَارَ الْأُمَّةِ
لِثِمَارِ إِقَامَةِ الْحُدُودِ : ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي
الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ ، فَلَوْلَا الْقِصَاصُ لَفَسَدَ النَّاسُ ،
وَلَأَهْلَكَ بَعْضُهُمْ بَعْضَاً ابْتِدَاءً وَاسْتِيفَاءً .
وَفِي سُنَنِ النَّسَائِي وَابْنِ مَاجَةَ
أَنَّ الْنَّبِيَّ ﷺ قَالَ : «حَدٌّ يُعْمَلُ بِهِ فِي الْأَرْضِ خَيْرٌ لِأَهْلِ
الْأَرْضِ مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا» .
فَالْحُدُودُ شَرَعَهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ
وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ؛ لِحِفْظِ التَّوَازُنِ فِي الْمُجْتَمَعِ ، وَلِصَوْنِ
الْأَخْلَاقِ مِنَ الِانْهِيَارِ ، وَهِيَ لِمَنْ تُقَامُ عَلَيْهِ تَطْهِيرٌ
وَتَزْكِيَةٌ إِنْ تَابَ تَوْبَةً صَادِقَةً ؛ إِلَّا الْقَاتِلَ فَإِنَّهُ
تَتَعَلَّقُ بِهِ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ : حَقٌّ لِلهِ وَحَقٌّ لِلْمَقْتُولِ وَحَقٌّ
لِلْوَلِيِّ ، فحَقُّ اللهِ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ الْنَّصُوحِ ، وَحَقُّ
الْأَوْلِيَاءِ بِالِاسْتِيفَاءِ أَوِ الْدِّيَةِ أَوِ الْعَفْوِ ، وَيْبَقَى
حَقُّ الْمَقْتُولِ يَسْتَوْفِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
أَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الْشَّيْطَانِ
الْرَّجِيمِ : ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ
تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ
ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾
.
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا عُلُوْمَاً نَافِعَةً وَأَعْمَالَاً
صَالِحَةً مُتَقَبَّلَةً وَأَرْزَاقَاً طَيِّبَةً مُبَارَكَةً وَاسِعَةً، اللَّهُمَّ
إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى اللَّهُمَّ إِنَّا
نَعُوْذُ بِكَ مِنْ قُلُوْبٍ لَا تَخْشَعْ وَمِنْ عُلُوْمٍ لَا تَنْفَعْ وَمِنْ
نُفُوْسٍ لَا تَشْبَعْ وَمِنْ دَعَوَاتٍ لَا تُسْمَعْ وَمِنْ عُيُوْنٍ لَا
تَدْمَعْ اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوْذُ بِكَ مِنْ النِّفَاقِ وَالشِّقَاقِ وَسَيِّءِ
الْأَخْلَاقِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ وَالْمُعَافَاةَ
اللَّهُمَّ آتِنَا فِيْ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِيْ الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ
النَّارِ وَجَمِيْعِ الْمُسْلِمِيْنَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا
وَجَمِيْعِ الْمُسْلِمِيْنَ، اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا وَوُلَاةَ أَمُوْرِنَا وَجَمِيْعِ
الْمُسْلِمِيْنَ لِتَحْكِيْمِ شَرْعِكَ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى
آلِ مُحَمَّدٍ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَالْحَمْدً لِله
رَبِّ الْعِالَمِيْنَ.
ملاحظة: الخطبة الأولى مقتبسة من خطب القاضي عياض اليحصبي السبتي (544 هجري) رحمه الله، والخطبة الثانية مقتبسة من خطب منبرية، مع بعض التعديلات.
روابط مباشرة للقراءة وتحميل الخطبة:
بصيغة pdf:
https://t.me/ALHLYL/713
word:
https://t.me/ALHLYL/712
تعليقات
إرسال تعليق