[ انتقادات ومآخذ حديثية وتاريخية على كتاب (تأسيس الإسلام بين الكتابة والتاريخ)، للكاتب: ألفريد لويس دي بريمار ، بترجمة عيسى محاسبي، ومراجعة مروان الداية، طبعة دار الساقي بالاشتراك مع رابطة العقلانيين العرب، 2009 ]
﷽
[ انتقادات ومآخذ حديثية وتاريخية على
كتاب (تأسيس الإسلام بين الكتابة والتاريخ)، للكاتب: ألفريد لويس دي بريمار ،
بترجمة عيسى محاسبي، ومراجعة مروان الداية، طبعة دار الساقي بالاشتراك مع رابطة
العقلانيين العرب، 2009 ]
إعداد:
عبد الله بن سعيد الهليل الشمري
27 / 4 / 1444 ه
الحمد
لله، أما بعد:
فإني
أذكر عنواناً لكل مأخذ، ثم أنقل نص كلام المؤلف المذكور، برقم الصفحة، ثم ما تيسر
من تعليق عليه، والمقصود بيان حال الكاتب والكتاب باختصار، وقد ميزت كلام مؤلف
الكتاب باللون الأزرق الداكن، لتمييزه.
أولاً: الطعن بناء على أن التصنيف لم يبدأ إلا بعد أكثر من قرن ونصف:
يقول
الكاتب في الصفحة الثالثة عشر: (وينبغي العلم أيضاً بأن حياة محمد لم تُكتب إلا
بعد موته بأكثر من قرن ونصف القرن، وربما أكثر، ففي مجرى القرن التاسع للميلاد
وضعت المؤلفات التي لا تزال تشكل حتى الآن الأساس المعتمد في كتابة سيرة محمد). !
التعليق: هذا ليس إشكالاً علمياً، وذلك لأن ذلك العلم
الذي يتحدث عنه لا يزال محفوظاً في صدور الرجال، ومحفوظاً في بعض الأجزاء والصحف
المتفرقة التي لم تجمع ذلك كله، وهي من مصادر التصنيف الذي حدث لاحقاً.
ثانياً: تركيب
الأسانيد وأنها تقنية ولعبة مخترعة من الكَتَبَة المسلمين:
يقول الكاتب
في الصفحة السادسة عشر: (في الكتابات التأريخية
الإسلامية القديمة نلاحظ أن الحادثة نفسها تُروى عموماً على شاكلة سرديات متقطعة
صادرة عن عدة إخباريين مختلفين، وكل واحدة من هذه النثارات السردية مزوَّدة بسلسلة
إسنادها التي تضمن صحتها بحسب منظور القدماء، والإسناد أو السند يعني هنا ذكر
قائمة أسماء الأشخاص الذين تناقلوا الخبر جيلاً عن جيل رجوعاً إلى المصدر الأول
للمعلومة. ويرد الإسناد على النحو الآتي: "حدثنا فلان عن فلان عن فلان، إلخ...". وهذه التقنية في
العرض الشكلي للروايات تتوخى إعطاءنا الانطباع بموثوقية تناقلها الشفهي المتواصل
عن طريق الأشخاص، انتهاءً إلى الشخصية الأولى التي تعتبر حجة مأذونة. ولكن
ينبغي العلم بأن الممارسة المنتظمة للإسناد لم تترسخ كتقليد مُتبَّع إلا على نحو
تدريجي، ففي منتصف القرن الثامن للميلاد مثلاً نلاحظ أن مفسر القرآن مقاتل بن
سليمان (ت 765م) لا يذكر أي سلسلة إسنادية لدعم مروياته المتعلقة بأسباب نزول هذه
الآية أو تلك من آيات القرآن. إن الأغلبية العظمى من المرويات الأولى ذات المقصد
التاريخي لم تصل إلينا بطريقة منظمة إلا من خلال كتب متأخرة بقرنين على الأقل عن
سنة (632) ميلادية، أي: (11) للهجرة، وهي السنة التي اعتُمدت للتأريخ عقب موت نبي
الإسلام ).
التعليق: هذا أيضاً باطل ظاهر البطلان، حيث أن الإسناد
ليس أمراً شكلياً، وإنما هو واقع إذا كان قائل ذلك مقبول الرواية، وحيث أن الشخص
الذي ينتهي إليه الكلام قد يكون كذاباً أو وضاعاً مثلاً، بل قد يكون غير مسلم
أصلاً، فكيف يقال عنه (حجة مأذونة) !.هذا جهل وعدوان صريح صارخ.
ثم يعيد
الكرة مرة أخرى في الصفحة الرابعة والثلاثين، فيقول: (بسبب انعدام المعطيات الخارجية الكافية، وبسبب رفض أخذ الـمعلومات
المتوافرة بعين الاعتبار، فإن الكثير من الباحثين المعاصرين يحصرون أنفسهم بالمواد
الإسلامية التقليدية كما تقدم نفسها إليهم. ومنْ ثم يجدون أنفسهم مضطرين للدخول في
لعبة الكتبة المسلمين القدماء !!. والواقع أن هؤلاء الاخيرين هم الذين فرزوا
المعلومات وانتخبوها طبقا للفكرة التي يريدون إعطاءها عن أصول جماعتهم وحياة
نبيهم.
وبالتالي فإن الباحثين المحدثين
يميلون إلى تبني مناهج المؤلفين المسلمين القدماء، أقصد مناهجهم في التحري والتحقق
، هذا في حين أن هذه المناهج مشروطة بطبيعة المواد المتجمعة على هذا النحو. وعندئذ
يركز هؤلاء الباحثون العلميون جهودهم النقدية على تحليل سلاسل النقل، أي الإسناد،
وتدقيقها. ولكن على الرغم من الاحتياطات الصارمة التي يتخذونها، فإنه قد يغيب عنهم
أن هذه السلاسل الإسنادية هي في الغالب عينها التي كان الكتبة المسلمون المعتمدون
قد انتخبوها وأثبتوا أو طعنوا في صحتها، طبقا لمعاييرهم الخاصة وخدمة لرؤيتهم
الخاصة للأحداث).
انتهى المنقول.
ثالثا: يقول الكاتب في معرض مخاصمته الشديدة مع روايات
المسلمين، سواء الحديثية أو التاريخية، وذلك في الصفحة السابعة عشر حيث قال: (وفي هذه الكتب نلاحظ أن الطبيعة المشتتة الأصلية للروايات
تظل هي هي، ولكنها –أي الروايات- أصبحت منفصلة بعضها عن بعض بسلاسل الإسناد
التي تعلن كل مرة عن رواية جديدة غير السابقة، وعندما تكون هناك روايات متعددة
ومختلفة المصادر عن الواقعة الواحدة، نجد أنفسنا أمام "يوميات متعددة
الأصوات" كما نقول اليوم. !!
فمصنف
المسند يكتفي عندئذ بعرض الروايات متقارنة حتى لو كانت متباينة أو متناقضة.
بيْدَ أن عرضها على هذا النحو المتقارن لا ينمّ عن نزعة حيادية.! وذلك
لأننا نستطيع غالباً أن نستشف وراءها ميول المصنف ومقاصده ! كما لو أنه هو الآخر
مؤلف حقيقي. وبالتالي فإن نمط النقل الشفهي يظل في القرن التاسع الميلادي هو
المعمول به فيما يخص تأليف الكتب، حتى وإن يكن هناك مجال للاعتقاد بأن نصاً
مكتوباً بعينه كان وراء رواية من الروايات). !
التعليق: المحدث والراوي ينقل الروايات كما جاءته، حتى
لو اختلفت، فإن الأصل أن الراوي والناقل ينقل ما ثبت لديه من أخبار، أما التحليل
والدراسة وبحث الاختلاف ووجه الصواب فيه، فهذا شيء آخر، الرواية شيء، ودراستها
وتوجيهها شيء آخر، كل منهما فن لوحده، فكيف يقال عن رواة الحديث بأنهم غير حياديين
! بناء على هذه النظرة الجاهلة القاصرة عن أصول الرواية !.
رابعا:
من منهج مصنف الكتاب
أنه يفهم الروايات الإسلامية وفق منهجه الخاص، ويعرض عن فهم أهل التخصص لها:
يقول الكاتب
في الصفحة الثامنة عشر وهو يتحدث عن نصٍ وقف عليه مكتوب على ورق البردي، ووصفه
بأنه يتحدث عن بداية مسيرة محمد في المدينة: (والواقع
أن الشيء المهم بالنسبة للقصة هو أن قبيلة خثعم خضعت لحكم السلاح).!
التعليق: استدرك المعلق في حاشية الكتاب، فقال: (الفعل
المستخدم هو: أسلموا (أي خضعوا)، وأما المصدر فهو (إسلام). انتهى نقل الحاشية.
وستأتي
أمثلة أخرى على منهجه المذكور في الفقرة العاشرة والحادية عشرة من هذا البحث.
خامساً: اللمز من خلال التشكيك في الرواة:
يقول
الكاتب في الصفحة العشرين: (يقول أحد كتاب التراجم عن أحد الرواة ممن استشهد بهم
الطبري، ويُدعى عبد الصمد بن عبد الوارث (م.822) إنه ينتمي إلى تلك الفئة الخاصة
من الرواة الموصوفين بأنهم: "ثقة إن شاء الله"، أي: ربما كانوا جديرين
بها.! وهذا التردد هو عينه الذي يشعر به المؤرخ الحديث عندما يطلع على هذه المراسلة،
ولكن لأسباب أخرى عديدة!).
التعليق:
أولاً: لا
يلزم من قول: (إن شاء الله) التردد أو الشك، فقد يُراد بذلك الاحتياط.
ثانياً: قد
يتردد العالم في الراوي بين كونه ثقة، وبين كونه من المرتبة التي هي أقل من الثقة،
وهي مرتبة حسن الحديث، أو إن شئت قل: الصدوق. وليس مراده بهذا التردد أن ذلك
الراوي إنْ لم يكن ثقة فهو ضعيف. فهذه قرينة أخرى توضح لنا أن الكاتب لهذا الكتاب
هدفه إجراميٌ وليس مراده الحق.
ثالثا:
الباحث الحقيقي عن الحق ينظر في أقوال العلماء الآخرين في الراوي، كما يصنع علماء
هذا الفن، ولا يطعن في الراوي بناء على كلام واحدٍ اختاره هو منهم.
سادساً:
الاتهام العام المباشر:
يقول
الكاتب في الصفحة الحادية والعشرين: (في الواقع، إن الطبري لا يخبرنا شيئاً البتة
عن الطبيعة العينية لمصادره !، وهذه ليست أقل المساوئ الخاصة بحالة عامة تشمل
الكتب التراثية ! (أو قل: أكثر كتب القدماء بما فيها كتب التراث الإسلامي)!. وهي
تشكل عائقاً خطيراً في وجه المؤرخ الحديث الذي يريد أن يدرس المصادر الإسلامية
لتلك الفترة بشكل علمي وتاريخي).
التعليق:
الإمام ابن
جرير الطبري قد أحال الخبر وبالإسناد أيضاً، وليس مجرد إحالة فقط، فقال رحمه الله
في تفسيره سورة الممتحنة، تحت الآية العاشرة: (حدثنا
ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، قال: دخلت على عروة بن
الزبير، وهو يكتب كتابا إلى ابن أبي هنيد صاحب الوليد بن عبد الملك، وكتب إليه
يسأله عن قول الله عز وجل: {إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات} [الممتحنة: 10] إلى قوله:
{والله عليم حكيم} [الممتحنة: 10] وكتب إليه عروة بن الزبير ...)، ثم ذكر الخبر.
ومن المسلمات
أن (مَنْ أحال فقد برئ)، فكيف يُطالَب الشخص بما لم يلتزم به، ويطالَب بهذا الشيء
وقد روى الخبر مسندا بصيغة التحديث المتصل ؟! ولكن الجهل والظلم والعدوان والتجني
لا يسلم منها إلا الموفقون بتوفيق الله لهم، والله المستعان.
سابعاً:
الإلزام المتكرر بأنه لابد من وجود الكتب المصنفة في تلك القرون، للتأكد من حقيقة
الأخبار ! :
يقول
الكاتب في الصفحة الحادية والعشرين: (ولكننا لا نمتلك المجموعات نفسها !، ولا نعرف
عنها شيئاً إلا من خلال الشذرات التي اقتبسها منها المؤلفون اللاحقون !. وهذا كان
يتم دائماً طبقاً للنمط الشكلي نفسه في الرواية ذات سلسلة الإسناد المتفاوتة
الطول. وهي سلسلة تبتدئ دائماً على هذا النحو: "حدثنا فلان، عن فلان ...
إلخ"، كما أشرت إلى ذلك آنفاً. وبالتالي فإن حصيلة البحث عن الكتابات
التأريخية العربية الموثوقة، والمشهود على وجودها بشكل مستقل قبل القرن التاسع،
تبدو لنا حتى الآن هزيلة !. وكل ما يمكن أن نقوله هو أنه وجدت قبل ذلك العصر نُبذٌ
من أخبار مكتوبة !!، ولكن من دون أن نستطيع تحديد مضمونها الفعلي بشكل مؤكد !!).
التعليق:
هذا إلزامٌ
بما لا يلزم، فالروايات يصح إيرادها شفوياً، كما يصح إيرادها كتابةً، ويصح كتابة
الأخبار الشفهية في كتاب، ولا يلزم وجود كتب مَنْ صنف في تلك القرون، هذا من
المسلمات في التدوين والنقل.
ثامناً: الطعن في الروايات
المشتهرة من خلال: (الطعن في الرواة الأصليين):
أراد مؤلف الكتاب الطعن في
الروايات وفي السيرة على وجه الخصوص، ولكن هذه المرة من خلال الطعن في الراوي
الجليل الصدوق محمد بن إسحاق:
قال المصنف في الصفحة الثانية والعشرين، بعدما
عنون بهذا العنوان: "من ابن إسحاق إلى الناقلين عنه":
(إن المرويات الأفضل ترتيبا والمعزوة إلى محمد بن إسحاق (م. ٧٦٧)
كانت قد اعتبرت حتى يومنا هذا بمنزلة الأساس في كتابة سيرة محمد كما كرسها المأثور الإسلامي. ويقال إن ابن إسحاق كان قد كتبها أو أملاها أو علمها
بناء على طلب الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور (٧٥٤ - ٧٧٥)، وذلك برسم ابنه ولي
العهد محمد المهدي. وبالتالي فهي، على غرار رسائل عروة بن الزبير، عبارة عن مرويات
سجلت بناء على طلب من السلطة السياسية. ونحن لا نمتلك عنها في الواقع إلا روايات
منقحة، وفي الغالب متغايرة أو حتى متناقضة أحيانا، أوردتها المؤلفات التي صنفت
بدءا من القرن التاسع وما بعده.
من هذه المؤلفات سيرة ابن هشام
(م. ٨٣٠) التي غدت الرواية شبه الرسمية عن سيرة نبي الإسلام أو على الأقل الأكثر
انتشارا في نطاق الإسلام السني، واتخذت موضوعا لشروح عدة. ويقال إن ابن هشام جمع
تلك المرويات من المغازي والسير لابن إسحاق»، ولكنه «هذبها ولخصها أو أوجزها"!
والواقع أن ابن إسحاق كان كشخص
موضع أخذ ورد، وكانت مروياته بحاجة إلى تصحيح وتنقيح على ما يبدو.
ففي المدينة مثلا يقال إنه دخل
أولا في خلاف مع الوالي لأنه سمح لنفسه باستجواب زوجته. ثم دخل ثانيا في خلاف مع
مالك بن أنس، أحد الممثلين الكبار لأهل السنة، لأنه -أي ابن إسحاق - سمح لنفسه
بازدراء أحاديثه، وكان مالك بن أنس يصفه بالدجال. وقد
عابوا على ابن إسحاق ميوله الشيعية، وأنه «يروي عن اليهود والنصارى». ويبدو أن ابن
النديم، صاحب كتاب الفهرست في القرن العاشر، ما كان يعرف روايات ابن إسحاق إلا عبر
مصدرين من غير المصادر التي نمتلكها.
وأما في ما يخص النص الأصلي
لابن إسحاق فإن ابن النديم لا يتحدث عنه إلا بشكل غير مباشر ووفق طريقة «يقال». .
. وذلك لكي يشير إلى تلك «الفضيحة» المتمثلة بميل ابن إسحاق إلى إدماج أشعار
مصنوعة في مروياته، يزورها له المزورون الذين يشتغلون لمصلحته. ونحن نعرف أن
المأثور التأريخي العربي القديم يولي أهمية كبيرة للشواهد الشعرية، ويستخدمها
بكثرة لتدعيم صحة المرويات التي ينقلها، أو على الأقل لتوكيد أهميتها. وبما أننا
نعرف ذلك فإنه لا يسعنا إلا أن نعيد إلى مكانته المتواضعة ذلك النمط من الكتابة
الذي هو عبارة عن شكل من أشكال التعبير الأدبي أكثر مما هو ركيزة فعلية للتوثيق
التاريخي .
وعلى الرغم من كل «التعديلات»
أو «الاختصارات» التي أجراها ابن هشام على عمل ابن إسحاق، إلا أنه ظل في النهاية
وفياً لهذا النمط من الكتابة. ونحن نعرف أن هناك مؤلفين اثنين آخرين غير ابن هشام
نقلا عن الكتابات المعزوة إلى ابن إسحاق .
الأول هو يونس بن بكير (م. ٨١٤
أو ٨١٥)، ونقله غالبا مبتكر بالقياس على نقل ابن هشام، وأحيانا يختلف عنه اختلافا
بينا. وأما الثاني فهو سلمة بن الفضل (م. ٨٠٧)، وقد ساق الطبري العديد من شذراته،
وهي كثيرا ما تكون متطابقة مع الشذرات الموازية لها لدى ابن هشام. وهذا ما يدفعنا
إلى التفكير بأنهما، أي نسخة ابن هشام ونسخة ابن الفضل، متولدتان عن مصدر مشترك
مختلف عن بقية المصادر الأخرى.
وأخيرا يمكن القول باختصار ما
يلي: بشكل عام، ما خلا استثناءات نادرة، فإن المرويات التي وردتنا عن الفترة
الأولى للإسلام لا يمكن اعتبارها «الوثائق التاريخية» الموثوقة عن هذه الفترة
نفسها. فهي خاضعة لطريقة معينة في القص، والكتابة، والنقل. وخاضعة للسياق الذي
تبلورت فيه بعد موت مؤسس الإسلام، وهو السياق الذي اقتضى «تنقيتها» عبر أجيال
الرواة المتتابعين، وتبعا لصراعات الأشخاص
والتيارات السياسية. وخاضعة
أخيرا للسياق الفكري وللمقاصد الخاصة بالمؤلفين الذين أعادوا، بناء على المادة
التي قدمها ابن إسحاق، ترتيب عناصرها المستقلة في الأصل بعضها عن بعض ".
٦ ـ هل يمكن التحدث عن «تاريخ
إسلامي للخلاص؟»
هناك مشكلة أخرى مهمة تطرح
نفسها بخصوص الطبيعة والنمط المعهودين للكتابة والمستخدمين من جانب المصادر
الإسلامية في حديثها عن بدايات الإسلام.
وتتجسد هذه المشكلة بالمقاصد
الدينية للمؤلفين. فهؤلاء يعكسون صدى الأحاديث والآثار التي يمكن لبعضها أن يكون
قديما نسبيا، ولكن معظمها عبارة عن عناصر متبعثرة من تاريخ خلع عليه التقديس. وهي، فيما يتعلق بمحمد خصوصا، عبارة عن عناصر مشكِّلة لأسطورة
بطولية - دينية !! أكثر مما هي سيرة تاريخية حقيقية.
ونقصد «بالأسطورة» هنا «ما
ينبغي أن يُقرأ». كان الباحث جون وانسبرو (Wansbrough John)
قد قام بتحليل دقيق جدا للنوابض الداخلية والصياغة الأدبية لمقاطع عديدة من
التاريخ الإسلامي المقدس. وهي مقاطع مستمدة من سيرة ابن هشام من جملة مصادر أخرى. وقد برهن جون وانسبرو على أن قصص السيرة المتعلقة بنبي الإسلام مشكَّلة
في قسم كبير منها، أو معاد تشكيلها، ثم مرتبة أخيرا، ضمن منظور ما يدعوه «بتاريخ
الخلاص History Salvation». إنها تعكس ما يعتقد مؤلفوها - الذين ينتمون إلى فئة الكَتَبة
المتخصصين -أنه يتعين عليهم تقديمه عن صورة «رسول الله» والقدَر الفريد من نوعه
للأمة التي أسسها. وكان من واجب هؤلاء المؤلفين تاليا أن يلحوا
على السمات الدينية المحضة
الخاصة بالأمة عن طريق تزويدها بإطار «تاريخي» (historicisé).
وكان ينبغي لهم أيضا، في سياق العملية التأليفية نفسها، أن يبلوروها في مواجهة
الجماعات والفرق الدينية المنافسة، ولا سيما منها المسيحية واليهودية .
وهي فئات منافسة للجماعة
الإسلامية الوليدة وتنتمي إلى بيئه ذهنية واحدة متمحورة حول «العصبيات». والكتابة
هنا موضوعة تحت غطاء أحاديث وآثار تتعلق بأحداث تصوَّر كما لو أنها تاريخية. لكنها
- أي الكتابة - تتمثل في الواقع في إضفاء طابع تاريخي على تلميحات وإشارات إلى
وقائع لا تخلو من إبهام وردت في القرآن، وتعميدها «أسبابا للنزول». واللهجة العامة
التي تسودها هي لهجة التبجيل أو المماحكة الجدالية من دفاع أو هجوم .
إن مصطلح «التاريخ الإسلامي
للخلاص» المستخدم من قِبل جون وانسبرو يتمايز عما يقال عادة عن التاريخ التوراتي
والإنجيلي. فأرجح الظن أن هذا المصطلح غير ملائم في حال تطبيقه على الكتابة
الإسلامية للتاريخ. لماذا؟ لأن كلمة «الخلاص» فيها لا تحمل المعنى نفسه الموجود في
السياق التوراتي والإنجيلي.
ولكن تطبيق وانسبرو للمناهج
التحليلية الجديدة على الكتابة الإسلامية للتاريخ سديد إلى حد كبير، وهي المناهج
نفسها التي كانت قد طبقت سابقا على النصوص التوراتية والإنجيلية. إن هذا النوع من
التحليل إذا ما طُبق على العديد من النصوص المستمدة من المصادر الإسلامية، يضع
النقد على سكك جديدة بالقياس إلى التوجهات المعتادة للبحث الإستشراقي الكلاسيكي.
فهذا التحليل الجديد، إذ يلح على الطابع الأدبي للمصادر الإسلامية، يتيح لنا أن
نتحرر من الإطار الضيق أكثر من
اللزوم، الذي حصرتنا فيه
المناهج التاريخية التي تتلاءم أساسا مع المواد الوثائقية لا مع النصوص ذات الطابع
الأدبي نفسه. فهو يركز على وحدة المقصد العام للمؤلفين المسلمين القدماء، أكثر منه
على التمحيص النقدي للنصوص !! كما مارسه الاستشراق الكلاسيكي بهدف التوصل إلى
معرفة «ما حدث تاريخيا بالفعل». والواقع أن المقصد العام للمؤلفين المسلمين هو
مقصد بيئة منتجة
للنصوص؛ ومؤلفو هذه النصوص، الذين كتبوها بعد قرنين من
حصول الأحداث الفعلية، مفعمون بعاطفة الانتماء إلى أمة جديدة حريصة على تأكيد
فرادتها والدفاع عنها تجاه الأمم الأخرى.
والواقع أن منهجية جون وانسبرو
أثارت ردود فعل قوية وحادة. وقد حلل الباحث هربرت برغ أسباب ردود الفعل هذه بكل ذكاء
وسداد. ولكن ينبغي أن نتمثل ونستوعب التوجه الفكري لجون وانسبرو، وكذلك المنهجيات
التحليلية التي ينادي بها كأحد عناصر البحث التي لا بد منها اليوم. ولكن بعد أن
نفعل ذلك فإن مطالب التاريخ الفعلي تظل قائمة حتى ولو لم يكن ذلك إلا من أجل معرفة
كيفية تشكل الأمة الجديدة في البداية وبناء على أي شيء تشكلت. والسؤال الذي نطرحه
هو التالي: ألا توجد في المصادر العربية، وإلى أي مدى، مجموعة من المعطيات
يمكننا أن نرتكز عليها من أجل
التوصل إلى المعرفة التاريخية المحضة؟ فهي وحدها التي تتيح لنا أن نعرف كيف جرت
الأمور بالفعل: أي بشكل تاريخي .
في الواقع، إن الروايات ذات
المقصد الديني والتي تشكل «التاريخ الإسلامي للخلاص» أبعد ما تكون عن التغطية
الكاملة لحقل الإنتاج الأدبي ذي الهدف التاريخي في اللغة العربية ولدى المسلمين
أنفسهم. فالكثير من المرويات والمعلومات الأخرى يمكن أن تكشف لنا عن وجود فضول
معرفي حقيقي لدى الناقلين أو المؤلفين، مستقل نسبيا عن الإطار الإسلامي العام.
فالسيرة الشائعة لنبي الإسلام، حتى لو كانت
تضغط بكل ثقلها على الإنتاج
الكتابي الخاص بتلك الفترة، ليست هي الفضاء الوحيد الذي يتحرك فيه ناقلو الأخبار
والروايات. إن المسار الذي أقترحه في هذا الكتاب سوف يقدم لي أكثر من مناسبة لكي
أبرهن على صحة هذا الرأي .
٧ ـ مادة المأثور الإسلامي
إن الآثار المتعلقة بسيرة محمد
وصحابته هي جزء من كل أكثر اتساعا، وبالتالي فهي لا تشكل إلا جانبا واحدا من
جوانبه. إن الأمر يتعلق هنا بالمأثور الإسلامي المدلول عليه باللغة العربية بكلمة
أصبحت تقنية وقائمة بذاتها هي كلمة: حديث.
وهذه المدونة المتعددة الأشكال
من النصوص تحتوي في أساسها على عناصر من روايات ومعلومات ذات طابع تأريخي.
فالحديث عبارة عن مجموعة ضخمة
من الأقوال، والأفعال، والمسالك، بل حتى من السكوتات التي تعزى كلها إلى نبي
الإسلام على مدى مسيرته الطويلة في الظروف الأكثر تنوعا. وكل واحد من هذه العناصر
المتمايزة (أقوال، أفعال، مسالك، إلخ.) هو حديث. ويطلق على المجموع أيضا اسم
السنة، مع إضافة آثار منقولة عن أبرز صحابة محمد. وكلمة سنة تقترب في معناها كثيرا
من الكلمة الإغريقية: ethos، أي «العرف العادة، الممارسة المألوفة». ويمكن أن نترجمها أيضا
بالممارسة المعيارية. وذلك لأن المأثور الإسلامي يلح على الطابع المعياري
والنموذجي للأقوال والأفعال والمسالك المعزوة إلى النبي. فالنبي هو مصدر السلطة،
والسيادة، والقانون، ومثال النمذجة الأخلاقية بالنسبة إلى مجموع الأمة. إنه
«الأسوة الحسنة» كما يوصف أحيانا في الأحاديث.
وحملاته العسكرية، أي المغازي،
هي عبارة عن نماذج تحتذى، وبطولات تُمجد وتقلد. وبموازاة القرآن، ولكن أكثر منه
بكثير، نلاحظ أن الحديث أصبح أساس الأخلاق الإسلامية، والمعيار الذي يوجه الفكر
والسلوك للأفراد والجماعة في كل المجالات. لقد أصبح التعبير عن مدى صراطية سلوك الجماعة واستقامتها.
بعض هذه الأحاديث مقتضب، وبعضها
مطول ومسهب، ولكنها في جميع الحالات تعتمد على سلاسل الإسناد للناقلين الموثوقين
بقدر أو بآخر، وتعطي أو تستهدف إعطاء الانطباع بالتعبير عن تجربة معيشة مأخوذة من
واقع الحياة الحية، كلما نقلت قولا أو سلوكا خاصا بمحمد. ويمكن أن يكون ذلك صحيحا
في الواقع .
لكن يمكن أيضا أن يكون رواية
أدبية تقوّي الوهم بالتاريخية التامة لهذه الأحاديث.
وهناك أحاديث أخرى يمكن أن نقول
عنها ما قالته الباحثة جاكلين الشابي من أنها عبارة عن «قصص مقدسة من عيار رائع».
وينبغي أن نعاملها بصفتها تلك. وينطبق ذلك على الحديث المشهور المتعلق بجبريل.
وفيه يبدو الملاك على هيئة بشرية، ولكن فريدة من نوعها، وقد جاء إلى محمد وطلب
إليه أن يتلو أمامه أركان الإيمان وشعائر الإسلام). انتهى النقل.
ثامناً:
النتيجة التي أراد الكاتب الوصول إليها، والطعن في المرويات من خلال التعجب
والاستفهام من كثرتها:
يكمل الكاتب
في نفس المصدر السابق فيقول:
(إن كمية المرويات عن محمد في
كتب الحديث، تبدو ضخمة للغاية. وأحيانا نتساءل: كيف أمكن لشخص واحد أن يقول كل هذا
الكلام ويفعل كل هذه الأشياء في حياة بشرية واحدة وضمن ظروف متنوعة كبيرة وصغيرة؟
هل تتسع حياة شخص واحد لكل ذلك؟ وبالفعل، إن الأحاديث تخبرنا كل شيء عنه حتى
طريقته في تسويك أسنانه. إن مثل هذه الوفرة والغزارة، وكذلك طابع القدوة النموذجية
الذي خُلع على
شخصه، كل ذلك يدل على أنه أصبح
بمرور الزمن موضوع تبجيل
وتقديس من قبل أتباعه. وكل
هذا لن يمر من دون أن يطرح مشكلة نقدية مستمرة بخصوص مجمل المادة المتوارثة عن
أصول الإسلام.
في الواقع، إنه لمن
المعروف منذ زمن طويل، وحتى في الدوائر الإسلامية
الفطنة الأمس
واليوم، أن الأحاديث هي في جزء كبير منها موضوعة. فالكثير منها لم يظهر إلا لاحقاً
بعد موت النبي، بل إنها لم تظهر إلا بعد الفتوحات التي تمت خارج الجزيرة العربية
وحتى القرن التاسع الميلادي. والحق أن كتب الحديث الضخمة، التي يتألف كل مصنف منها
من مجلدات عديدة، كانت قد دونت تدريجا طبقا لمقتضيات البناء الداخلي للأمة
الإسلامية، هذا إن لم تكن صُنفت طبقا للصورة المثالية المتوارثة عن الرجل المؤسس.
وكل هذا شيء مفهوم ويمكن تفسيره وتفسير
أسبابه. وربما كانت
هذه العملية قد ابتدأت باكرا جدا. فكل شيء آنذاك كان ينبغي أن يوضع تحت هيبة
المؤسس واسمه. وكل موقف يتخذ سواء من حيث الشعائر، أو الطقوس، أو السياسة، أو
الحياة الاجتماعية، أو الأخلاق، أو حتى طريقة اللباس والأكل والشرب، كان ينبغي أن
يستمد مشروعيته مما يُعتقد أن المؤسس قد قاله أو عمله فعليا. والواقع أن السياقات
العرقية والاجتماعية قد تعددت وتنوعت بعد الفتوحات والخروج من شبه الجزيرة العربية
إلى العالم الواسع. والأمر نفسه ينطبق
على المشاكل
السياسية التي كثرت وتعقدت بعد الحروب الأهلية وصراعات مختلف الفرق والأحزاب على
السلطة. ويمكن أن نضيف إلى ذلك المسائل الشرعية المستجدة، والمناظرات الفكرية
والدينية من داخل الأمة وخارجها. كل ذلك ساهم إلى حد كبير في بلورة الأحاديث
التبريرية التي راحوا يعزونها بعد أن ابتدعوها إلى الفترة الأولى، فترة الأصول
والتأسيس: أي إلى زمن النبي، بل إلى النبي نفسه أو إلى أحد صحابته المقربين .
على هذا النحو تم
تأليف كتب الحديث. وهذه حقيقة معروفة منذ زمن طويل من قبل العلماء المسلمين أنفسهم
!!. ولكن البحث الغربي أو الاستشراقي
الحديث هو الذي برهن عليها منذ عام (١٨٩٠). وقد قام بذلك المستشرق الهنغاري
أغناطيوس غولدزيهر في الجزء الثاني من كتابه: (دراسات محمدية). ثم جاء بعده
المستشرق الالماني جوزيف شاخت عام (١٩٥٠) ونشر كتابا تحت عنوان: «أصول التشريع المحمدي».
وفيه استخدم منهجية النقد التاريخي نفسها التي استخدمها سلفه وطبقها على الجانب
الفقهي من أقوال النبي وأفعاله، وكذلك أقوال صحابته وأفعالهم باعتبارها مصدرا
للشرع والقانون في الإسلام. وكل واحد من هذين الكتابين نقض بشكل جذري الكثير من
التوجهات التقليدية للبحث. ونقصد بذلك التوجهات التسليمية التي كانت تثق أكثر من
اللزوم بصحة الأحاديث، وبصلاحية استخدامها من
أجل المعرفة الحقيقية بتاريخ
الأصول وبدايات الإسلام. ولكن كل واحد من هذين الكتابين استُقبل بشكل مختلف
ومتناقض، ولا يزال).
انتهى النص
المنقول حرفياً من الكتاب المذكور.
تاسعاً: يكمل الكاتب نقده الْحادّ مستخدماً أنواعا من طرق النقد
اللاذع والهستيري والمكشوف، فنراه مثلاً يطعن في السنة والسيرة بناء على نقص
المعطيات النقوشية والأثرية !!! كما زعم، وذلك يبدأ من الصفحة التاسعة
والعشرين. فأقول: يا سبحان الله، ما علاقة ذلك بالدين؟! فالدين الإسلامي
يأمرنا بأخذ ميراث الأنبياء العلمي، وليس الدنيوي، بل قد صح عن النبي صلى الله
عليه وسلم الخبر بأن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورَّثوا العلم.
ثم
يستمر هذا المعتوه في الطعن اللاذع ويتحدث عن المصادر غير العربية فيما يتعلق
بفترة بدايات الإسلام، وأنها تتحدث عن فترة الغارات العربية على جنوب فلسطين بدءاً
من سنة (629) ميلادية، أي العام الثامن للهجرة !، قائلاً كما في الصفحة الثانية والثلاثين:
(لقد
كانت هذه الفترة مهمة بالنسبة لبناء الإسلام. وبحسب جميع المصادر، أعربيةً كانت أم
غير عربية، فإن محمداً كان هو مدشن الفتح خارج الجزيرة العربية ، هذا إنْ لم يكن
هو منجزه !، وعلى أية حال فإن المحاولات الأولى لهذا الفتح حصلت في عهده).
ثم
وصلت به جرأته إلى أنْ يقول: (ومهما بدت المعلومات التي يقدمها المراقبون غير المسلمين بهذا
الخصوص مقتضبة، فلا بد أنْ نأخذها بعين الاعتبار. لماذا؟ لسبب واضح جداً: وهو أن
بعض هذه المعلومات معاصر للأحداث، على عكس واقع الحال في المصادر الإسلامية). أ.ه
ثم أخذ يستدل بروايات الإخباريين غير المسلمين الذين عاصروا آخر حياة
النبي محمد صلى الله عليه وسلم وما بعدها بقليل، بينما هي في حقيقتها مشابهة
للمصادر الإسلامية، حيث يقول: (فالمشهور أن محمداً مات عام (632م). والحال أن الإخباري السرياني
توما القسيس الذي كان يعيش في منطقة وادي الرافدين كان يكتب حوالي عام (640م) أي
بعد ثمان سنوات فقط من موت محمد. ! وهذا الإخباري يروي حدثين اثنين: الأول يعود
تاريخه إلى عام (634) والثاني إلى عام (636) !!. وأما الأخبار الأرمنية المنسوبة
إلى سيباوس فتنقل طبقاً لرواية "شهود عيان" حكاية الغزوات العربية
الأولى في منطقة أرمنية، وتؤرخ لها بعام (640). وأما ناسخ المعلومات فقد كتب حوالي
عام (660) !!!).
فلا أدري هل شعر هذا الكاتب بأنه حَجَّ نفسه بنفسه أم لم يشعر؟ حيث أنه
اعتمد على مصادر كُتِبت بعد تلك الأحداث بسنوات عديدة، لا يدري هو متى بالضبط،
وذلك ظاهر في قوله: ((وأما ناسخ المعلومات فقد كتب حوالي عام 660)).
ولا أدري من هم شهود العيون، لمعرفة صدقهم أو حيادهم على الأقل.
أضف علاوة على ذلك أنها مصادر غير محايدة، فمثلا: إذا كان الكاتب
نصرانيا والبلد المغزو أهله نصارى، فلا يعتبر هذا الكاتب النصراني محايداً لأنه
على دين أهل ذلك البلد المغزو، فالله المستعان أكبر.
عاشراً:
يَعتبر مصنف الكتاب أن الأشخاص غير المسلمين المعاصرين للفتوحات الإسلامية الذين
كتبوا عنها: أنهم مراقبون غير خارجيين ! لأنهم ينتمون إلى السكان أنفسهم
الذين تعرضوا للفتوحات فكانوا ضحاياها !.
يقول في
الصفحة الثالثة والثلاثين: (ولكن الكتاب غير المسلمين
للإخباريات المعاصرة للفتوحات لا يمكن نَعتهم بالمراقبين الخارجيين بالقياس إلى
الأحداث التي يعتقدون أن من واجبهم تدوينها كتابة: فهم ينتمون إلى السكان أنفسهم
الذين تعرضوا للفتوحات، والذين كانوا غالباً ضحاياها !).
الحادي
عشر: الطعن في الباحثين المعاصرين الذين اعتمدوا على المصادر الإسلامية المسندة !
بسبب أنها مصادر مبنية على الكذب والاختراع، وأنها صنيعة أرثوذكسية !!:
يقول الكاتب
في الصفحة الرابعة والثلاثين، تحت عنوان "دائرة مغلقة": (بسبب انعدام
المعطيات الخارجية الكافية، وبسبب رفض أخذ الـمعلومات المتوافرة بعين الاعتبار،
فإن الكثير من الباحثين المعاصرين يحصرون أنفسهم بالمواد الإسلامية التقليدية كما
تقدم نفسها إليهم. ومنْ ثم يجدون أنفسهم مضطرين للدخول في لعبة الكتبة المسلمين
القدماء !!. والواقع أن هؤلاء الاخيرين هم الذين فرزوا المعلومات وانتخبوها طبقا
للفكرة التي يريدون إعطاءها عن أصول جماعتهم وحياة نبيهم.
وبالتالي فإن الباحثين المحدثين
يميلون إلى تبني مناهج المؤلفين المسلمين القدماء، أقصد مناهجهم في التحري والتحقق
، هذا في حين أن هذه المناهج مشروطة بطبيعة المواد المتجمعة على هذا النحو. وعندئذ
يركز هؤلاء الباحثون العلميون جهودهم النقدية على تحليل سلاسل النقل، أي الإسناد،
وتدقيقها. ولكن على الرغم من الاحتياطات الصارمة التي يتخذونها، فإنه قد يغيب عنهم
أن هذه السلاسل الإسنادية هي في الغالب عينها التي كان الكتبة المسلمون المعتمدون
قد انتخبوها وأثبتوا أو طعنوا في صحتها، طبقا لمعاييرهم الخاصة وخدمة لرؤيتهم
الخاصة للأحداث. وبالفعل، وطبقا للمنطق التقليدي، فإن من شأن هذا المنهج أن يتيح
التحقق من صحة معلومة ما بالاستناد إلى المعرفة الدقيقة بكل شخص من الأشخاص الذين
ساهموا في نقلها: أي «معرفة الرجال» حسب التعبير الدارج الذي غدا تقنيا. وعلى هذا
النحو، وبدءاً من القرن التاسع، راحت تتشكل أدبيات وتراجم غزيرة متخصصة «بالرجال».
إنها عبارة عن مؤلفات منتظمة تحتوي على ترجمة لكل واحد من هؤلاء الرجال المفهرَسين
بصفتهم رواة. كما تحتوي على أسماء الرجال الذين نقلوا عنهم.
وكل ذلك مرفق بحكم قيمة خاص
بدرجة الثقة التي يمكن أن تُولى لكل راو على حدة. ومعايير هذا الحكم قد تكون
أحيانا شخصية للغاية، ولكنها في الغالب تشير إلى مجرد وجود إجماع، أو انعدام
إجماع. والإجماع عندما يوجد، يرتكز عموما على معايير في القبول محددة ومصنفة داخل
حدود واسعة على نحو كاف، ولكنها في النهاية فضفاضة نسبيا. ألا نجد أنفسنا في أحيان
كثيرة أمام وصفين متناقضين للراوي نفسه بالقول إنه «ثقة» و «مدلس» في آن واحد؟
وهذا لا يمنع الكَتَبة من أن يُحللوا بدقة مفهوم التدليس، وما قد يحيط به من
تلبيس، وكذلك حدود مقبوليته. وهو الشيء الذي كان سيثير دهشة مفكرنا الفرنسي باسكال
واستغرابه الشديد.
هكذا نجد أن المراجع الكبرى
المتعلقة بتراجم الرواة قد غدت بالتالي، وكما لو بشكل طبيعي، جزءا مهما من الجهاز
التقني لبعض الباحثين المعاصرين. وعلى هذا النحو نجد الكثير من المؤلفات الحالية وقد
ذُيِّلت في أسفل صفحاتها بإحالات مضخمة أكثر من اللزوم إلى الكتب القديمة
المتخصصة. وهذا ما يحصل لي أنا أيضا أحيانا على الرغم من أني لست متخصصا بهذه
القضايا. لا ريب أن هذا الشيء مفيد، وغالبا ضروري. ولكنه قد يصبح أيضا مدعاة
للتسلية، وذلك لأن المؤرخ الفيلولوجي يجد هنا مادة واسعة للانخراط في اللعبة !!.
وإذا ما أراد على الرغم من كل شيء أن يحافظ على برودة أعصابه وتعقله، لحسن حظه أو
لسوئه، فإنه يلاحظ أن الكَتَبة المسلمين القدماء اختلفوا غالبا في ما بينهم
وأطلقوا أحكاما متناقضة على «الرجال».
وبما أن سلاسل النقل للنمط نفسه
من المعلومات يمكن أن تكون عديدة ومتنوعة، فإنها تضاعف إلى ما لا نهاية عدد تراجم
الأشخاص المطلوب استشارتها.
وكذلك فإن المعلومات التي
يتناقلها «الرجال» عن الواقعة نفسها يمكن أن تكون متناقضة تماما. والحق أنه
بمساعدة العقل الإلكتروني وحده قد يبدو ممكنا أن نخضع هذه الكتلة أو تلك من
المعلومات أو من سلاسل النقل إلى معالجة معلوماتية حقيقية.
نقول ذلك ونحن نعلم أن أجهزة
المعلوماتية أصبحت الآن قاعدة كل علم. ولكن إذا ما دققنا إلى ما لا نهاية في سلاسل
النقل الخاصة بكل أثر أو خبر، أفلا نخاطر بتأبيد
نوع من سكولائية[1] جديدة حول
الحديث، محبوسة داخل دائرة مغلقة؟
ثم ألا نخاطر على الأخص بأن
ننسى أن نطرح على أنفسنا السؤال التالي: أليس القالب العام لأصول الإسلام، والذي
كانت هذه الآثار والأخبار قد بُلورت داخله عن طريق الغربلة والانتخاب والتصنيف،
تركيبة اصطناعية في نهاية المطاف؟
في الواقع، إن هذا القالب العام هو عبارة عن بنية من صنع أرثوذكسية
إجماعية أخذتْ على عاتقها تنظيمَ تاريخٍ خُلِع عليه التقديس !! وتم تأويله مسبقا،
أكثر مما هو عبارة عن تجميع وعرض لوثائق تاريخية. !
وفيما يخص كتابة التراجم، فإن
سيرة ابن هشام تمثل النموذج الأكمل على ذلك. ويمكن أن نقول الشيء ذاته بصفة أعم
وأشمل عن مسند الحديث الأكثر هيبةً ومأذونية، أي «صحيح البخاري» !. ولحسن الحظ
فإنه توجد مصنفات أخرى غيره، بما فيها مسند اليمني عبد الرزاق، السابق على مسند
البخاري، وإنْ لم يحظ بالتكريس الرسمي ولم يدخل دائرة «الصحاح». ولكن قالبه العام
هو نفسه لدى البخاري وسواه. والواقع أن الإجماع المنعقد حول هذا القالب، بكل
تماسكه الظاهري، يبدو هائلا فعلا. ويُضاف إليه تضخم حقيقي في الاثار عن أقوال رسول
الله وأفعاله وبدواته. وكلها مزودة بشكل آلي وبلا كلل أو ملل بسلاسل إسنادها ذات
المنزع التضخمي هي أيضا إلى ما لا نهاية. لقد ضغط هذا القالب بثقله حتى يومنا هذا
على كل المحاولات الحديثة لكتابة سيرة محمد أو دراسة أصول الإسلام وبداياته !!). انتهى النقل.
الثاني
عشر: السيرة بنظر المصنف:
ثم بعد ذلك
أغار المصنف على السيرة، في الصفحة السابعة والثلاثين، تحت عنوان: (أهي سيرة
مستحيلة) يقرر أن سيرة محمد مخترعة ومختلقة فهي غير حقيقية، وبعيدة في نظره عن
اللاهوتية والروحانية، ثم يقول:
(ينتج من ذلك كله أن هذا الكتاب ليس عبارة عن سيرة لمحمد. نقول ذلك
على الرغم من أن بعض العناصر السيرية تظهر فيه أيضا. ولكنه دراسة. إنه دراسة تحاول
أن تكون موثقة عن تأسيس الإسلام كما ظهر في التاريخ. وأنا أحاول فيه فقط أن أرسم بعض الملامح المتميزة لأصول الإسلام في خطوطها العريضة، وكذلك
بعض ملامح تشكله كما تتجلى في النصوص التأريخية الإسلامية أو من خلالها. والمعنى
الذي أقصده هنا بكلمة «تأسيس» سوف يتجلى شيئا فشيئا، كما آمل، على مدى الفصول
التالية. لنقل ببساطة إن القارئ الذي يبحث فيه عن تفكير لاهوتي أو
روحاني سوف يخيب
أمله. لا ريب في أن مثل هذا التفكير
الأكثر تجريدا أو جَوَّاِنيةً شيء ضروري أيضا. ولكنه لا يمكن أن يجيء إلا في
المرحلة الثانية من العمل، أي بعد أن نكون قد موضعنا في المرحلة الأولى، وبقدر
الإمكان، ولادة الإسلام داخل إطارها التاريخي الخارجي، وبالتالي فإن دراستنا هذه تتمركز على
المرحلة الأولى فقط).
الثالث
عشر: المسلمون لم يكن اسمهم كذلك في القرن الأول الهجري بنظر المصنف:
ثم جاء بطامة
أخرى، وهي أن المسلمين لم يكن اسمهم كذلك !، ولم يكن الواحد منهم يُدعى بالمسلم !،
وأن المسلمين أنفسهم لم يكونوا يدعون أنفسهم بهذه التسمية قط !، حيث يقول في
الصفحة التاسعة والثلاثين: ((في تلك الفترة (يعني
فترة ما بين عامي 640 – 705 نصراني) ما كانوا يستخدمون قط كلمة "مسلم"
العربية للدلالة على الفاتحين، وهذا يدفعنا للاعتقاد بأن الفاتحين أنفسهم ما كانوا
يدعون أنفسهم بهذه التسمية !)).
وهذا مما يدل
على منهجه الذي سلكه في هذا الكتاب، وأنه منهج معوَجّ.
الرابع
عشر: الزعم بأن العامل الأول والأصلي في تأسيس الإسلام هو: تشكيل تحالف متمحور حول
عمل عسكري في خدمة الفتح ! والزعم بأن كلمة (إسلام) ملتبسة المعنى منذ البداية !!
وأن الباحثين السابقين طمسوا هذا الالتباس لمصلحة معنى واحد فقط وهو: الامتثال
الفردي الذي ينبغي للمؤمن أن يلتزمه تجاه الله !! وأن تعريف
الإسلام في البدايات الأولى يمكن أن يكون على النحو التالي: إنه يعني الانضمام أو
الخضوع لسلطة جديدة أنشأها نبي يحدد قوانينها باسم الله، وترتكز قواعدها السياسية
على عمل عسكري دائم !:
يقول في
الصفحة السادسة والتسعين: ((وعندما أراد
المسلمون طوال القرنين اللذين أعقبا موت المؤسس أن يتحدثوا عن تجربته وينظموا
الحكايات المتعلقة ببدايات الإسلام في كل متماسك، فعلوا ذلك حول المأثورات
المتعلقة بحملاته العسكرية داخل الجزيرة العربية أولا، ثم نحو أراضي فلسطين
البيزنطية ثانيا. وطبقا لجميع المصادر التي نمتلكها، سواء أكانت إسلامية أم
غير إسلامية، فإن تشكيل تحالف متمحور حول عمل عسكري في خدمة الفتح كان هو العامل
الأول والأصلي في تأسيس الإسلام.
٢ ـ قول مشهور :
لقد انتظم العمل العسكري،
بالفعل، حول رجل صرح بأنه نبي وطالب الآخرين بــ «الإسلام» لما قدمه على أنه رسالة تلقاها من الله. وينبغي العلم
بأن كلمة «إسلام» كانت منذ البداية ملتبسة المعنى. وقد اعتاد الباحثون في الماضي
طمس هذا الالتباس لمصلحة معنى واحد محصور بعلاقة «الامتثال» الفردي الذي ينبغي
للمؤمن أن يلتزمه تجاه الله. ولا ريب في أن الكثيرين من المؤمنين المسلمين
يعيشون علاقة الامتثال هذه بصورة فردية إلى اليوم. ولكن ما نعرفه عن التاريخ
القديم والمعاصر قَمينٌ بأن يجلو هذا الالتباس. فعندما نقرأ أدبيات السيرة
المتعلقة بمحمد وأصحابه، نجد أن تعريف إسلام البدايات الأولى يمكن أن يكون على النحو
التالي. إنه يعني الانضمام أو الخضوع لسلطة جديدة أنشأها نبي يحدد قوانينها باسم
الله، وترتكز قواعدها السياسية على عمل عسكري دائم. وهذا هو بالضبط الشيء الذي
تتحدث عنه «مغازي رسول الله». فهذه المغازي تشكل النواة الأولى لكتابة تاريخ
بدايات الإسلام).
ثم اقتبس هذا
المؤلف حديثا من الأحاديث الصحيحة عند المحدثين ثم عقَّبَ عليه بالتشكيك بصيغة
الاستفهام، حيث قال: ((في واحد من الأقوال
الأكثر قدما المنقولة عن محمد، يروي عمر بن الخطاب، خليفته الثاني: «أمرت أن أقاتل
الناس حتى يقولوا «لا إله إلا الله» فمن قال «لا إله إلا الله» فقد عصم مني ماله
ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله» .
وبالنسبة للفترة الأولى من
تاريخ الإسلام فإن صدى لهذا القول يترجّع في
حكاية «الغلطة» التي ارتكبها
أسامة. ولكن هل هي حادثة وقعت فعلا أو مختلقة لتلبية حاجات تشريعية لاحقة؟ لا
أعرف).
انتهى
ثم يستمر
الكاتب بنفس النبرة وبنفس النظرة وبنفس النزعة العدائية، فيقول في الصفحة الثامنة
والتسعين تحت عنوان (صحيفة يثرب) التي وصفها بأنها وثيقة ذلك التحالف الحربي وليس
دولة:
(يترجّع في كتب الحديث صدى وجود وثيقة كتبها محمد من أجل إرساء
قواعد تحالفه، مع إشارات متكررة إلى بعض فحواها. وأكثر ما تتحدث عنه هذه الكتب
موضوع تسوية الديات في حالة حصول جرائم قتل، وكذلك موضوع فدية الأسرى.
ويرد فيها استشهاد يتكرر
بانتظام عن ضرورة وجود تضامن وثيق بين المنتسبين إلى الحركة ضد المناوئين لها.
وأخيرا يورد العديد من النقلة تصريحا لمحمد يقول فيه إن «المدينة» مكان مقدس
(حرام) تماما كالكعبة في مكة. وبالتالي فإن من يرتكب فيها عدوانا أو يؤوي فيها
معتديا فإنه ملعون.
وفي حين أن الأقوال المعزوة إلى
بعض صحابة محمد حول هذا الموضوع تظل مقتضبة، فإن تلك المعزوة إلى الخليفة الرابع
علي تبدو شديدة الإلحاح ومضخمة في أكثر من موضع. ويقال إن عليا احتفظ بالوثيقة في
غمد سيفه. وقد جاء في النص الحرفي لهذه الوثيقة التي تتعدد رواياتها ويضخم أحيانا
مضمونها: (سألنا عليا: هل عندكم من رسول الله شيء بعد القرآن؟ فأجاب: ما عندنا إلا
ما في القرآن. . . وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك
الأسير، وأن لا يُقتل مسلم بكافر». كل هذه الشهادات، سواء أجاءت من علي أم من
الآخرين، تتفق في كل الأحوال على القول بوجود شيء مكتوب من قبل محمد، شيء يخص
التنظيم الداخلي لتحالفه والنشاط الحربي لهذا التحالف القائم «في سبيل الله»).
الخامس
عشر: الجرأة على الحكم على الأحاديث والانتقاء منها ! :
يقول
الكاتب في الصفحة السابعة عشر بعد المائة:
(... في كتابين من كتب الحديث.
لنستمع إلى الحديث أولا: عن جرير بن عبد
الله عن النبي قال: إن الله أوحى إلي: أي هؤلاء الثلاثة نزلت فهي دار هجرتك:
المدينة أو البحرين أو قنسرين»
ثم إن أحد المختصين بعلم الحديث
في القرن العاشر الميلادي يستشهد بهذا الحديث ويضيف إليه التعليق التالي: «قال أهل
العلم ثم عزم له على المدينة فأمر اصحابه بالهجرة إليها»
ونفهم من ذلك أنه، بموازاة ما
استقر عليه الرأي، قد راجت أحاديث أخرى حاولت أن تعطي الأولوية لأماكن أخرى غير
«المدينة» بصفتها دارا للهجرة. وربما تكون مرت فترة قبل أن يعرف أحد ما الذي حصل
بالضبط. مهما يكن من أمر فإن
هذا الحديث أثار التساؤلات.
ولكن العديد من علماء الحديث رموا الخبر في خانة الأحاديث المدعوة «بالضعيفة»، أي
التي لا تعتبر، لسبب أو لآخر، «صحيحة» أو «حسنة» في مضمونها أو في صفة رواتها. ولكن
على الرغم من ذلك انعقد نوع من إجماع : فقد توصل أخيرا إلى القول بأن الخبر يمكن
أن يكون صحيحا أو يمكن أن يصنف في خانة الأحاديث الصحيحة، ولكن الغريبة، (صحيح
غريب)، وبالتالي "المقبولة " !
وأيا يكن أمر هذه المناقشات
التي دارت بين كتبة الحديث، فإن الحديث المعني
وهو ليس وحيدا في نوعه ـ ليس غريبا إلا بالقياس إلى ما استقر عليه الرأي من
أن النبي كان مضطهدا، ولذلك بحث عن ملاذ يلجا إليه في مكان قريب نسبيا يمكنه
أن). انتهى النقل.
التعليق
باختصار:
حكم عليه بعض
المحدثين بأنه : موضوع ! وهو أشد أنواع المردود. كالشيخ الألباني في «ضعيف
الجامع الصغير وزيادته» (ص226) : 1573 .
السادس
عشر: كتابة المصحف في نظر الكاتب، ونظرته حول كتابة مصادر الإسلام عموما في ذلك
الوقت:
تجرأ
هذا الكاتب وانتقل إلى الحديث عن القرآن الكريم، فزعم أن كتابة نصوص القرآن كانت
تحت التصرف التام من الصحابة بعد وفاة نبيهم !، أي: أنهم كانوا يكتبون ما شاءوا،
ويتركون ما شاءوا !، ذاكراً قصة (آية الرجم) على أنها أكبر مثال على هذا التصرف
المطلق !، ومستدلاً بهذه القصة أيضا على أن تلك الفترة (فترة بداية تاريخ الإسلام)
لم يكن فيها تمييز بين القرآن والسنة !! :
يقول
الكاتب في الصفحة الخامسة والخمسين بعد الثلاث مائة:
(«أحسن الحديث»:
يبدو بالفعل أن خلفاء النبي هم
الذين حسموا الأمور فيما يخص النصوص التي ينبغي أن تدمج في المصحف. وحالة ما يدعى
«بأية الرجم» أكبر مثال على ذلك، علما بأن رأي عمر بن الخطاب ليس هو الذي تغلب،
بحسب ما يقال لنا، في هذه المسألة.
كانت المسألة الأساسية التي
طرحت نفسها هي التالية: هل ينبغي على الأمة الجديدة أن تتبنى حكم الرجم الذي نصت
عليه شريعة موسى فيما يخص الزناة؟ ثم، وهذا هو الأهم، هل ينبغي تدوين نص هذا الحكم
بحرفيته في المصحف؟ علما بأن النبي محمدا قد طبق على الأرجح هذه العقوبة باسم
شريعة موسى على الرغم من أنها كانت نطلت لدى اليهود منذ زمن طويل.
فبعد أن ذكر ابن أشتة الدور
الذي لعبه عمر في جمع القرآن أضاف يقول بشكل عابر ومقتضب: «إن عمر أني بأية الرجم
فلم يكتبها لأنه كان وحده»! ولم يتوان مصنفون آخرون عن إثارة المسألة بإسهاب،
وأشاروا إلى أن عمر بن الخطاب ذكَّر الناس بمسلك محمد بخصوص هذا الموضوع، وذلك في
خطبة ألقاها قبل وقت قصير من مقتله ووصلتنا شذرات منها عبر عدة قنوات ناقلة. ومما
قاله فيها: «إن
رسول الله قد رجم ورجمنا بعده».
بل إننا نحوز نصين تضمنا ما يعتقد أنه كان آية الرجم. ولكن بما أن الإجماع لم
ينعقد حولهما على ما يبدو، فإن الآية لم تدمج في القرآن، وإن بقي النصان ماثلين في
مسانيد الحديث النبوي ". وأما القرآن الحالي فإنه لا يقيم على الزناة سوى حد
الجلد.
إن المناقشة التي دارت حول «آية
الرجم» بعد موت محمد ذات دلالة بالغة على الفعالية الكتابية لأهل القلم في الإسلام
أثناء القرن الأول للهجرة. ذلك أنه قد وجدت في بداية تاريخ الإسلام فترة مترجرجة
لم يكن فيها التمييز بين ما هو حديث نبوي وما هو قرآن قد اتخذ طابعه الفاصل المطلق
من منطلق أن القرآن كلام الله والحديث كلام محمد. وفي هذا التمييز نجد أنفسنا،
بالفعل، في مواجهة مصطلحين فرضا نفسيهما
بصورة قطعية في فترة لاحقة،
ولكننا لا نستطيع أن نسقطهما على الفترة الأولى من تاريخ الإسلام بدون أن نجازف
بالوقوع في المغالطة التاريخية (anachronisme) .
هكذا نجد في رسالة شيعية منسوبة
إلى زيد بن علي، حفيد علي بن أبي طالب وإمام الزيديين (توفي عام ٧٤٠م)، حديثين
يفتتحان بالعبارة التالية: «قال محمد»، ومضمونهما موجود في نص القرآن الحالي مع
تعديل أسلوبي طفيف!). انتهى النقل.
هذا وإني لم
أفتش في جميع الكتاب، لكن ما ذكرته كافٍ لصاحب القلب اللبيب إن شاء الله تعالى
لمعرفة الكاتب والكتاب، والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
[1] ورد في حاشية الكتاب تعريف السكولائية فقال
المعلق: المقصود بالسكولائية هنا الطريقة المدرسانية
والتكرارية العقيمة التي كانت سائدة في العالم المسيحي إبان العصور الوسطى. انظر
المناقشات اللاهوتية السكولائية التي لا تنتهي. . . والمصطلح آت من كلمة «سكولا»: أي
مدرسة. «م». انتهت الحاشية.
المقال نشرته قديما في قنواتي على التيليجرام:
تعليقات
إرسال تعليق